الخميس، 5 يوليو 2012

إطلالة على أجوبة الشيخ امباكي بوسو ورسائله*


يُعتبر العلامة الشيخ امباكي بوسو (١٨٦٤- ١٩٤٥) من أبرز الشخصيات العلمية السنغالية في  النصف  الأول من القرن العشرين، وقد كان يُتقن كثيرا من العلوم كالفقه والتوحيد والتصوف والحساب وعلم الفلك وعلوم القرآن، وله في هذه المجالات مؤلفات قيمة ركَّز فيها على احتياجات أهل منطقته دون تطويل ممل أو إيجاز مخل.
كان الشيخ امباكي يتمتع بثقة شيخه الشيخ أحمد بمب بفضل مستواه العلمي والأدبي الرفيع واستقامته الشديدة، ولذا ولَّاه أمر التدريس والإفتاء والقضاء والرد على المراسلات، يقول الشيخ محمد البصوبي في ترجمته " وكان الشيخ ولاه القضاء والإفتاء وإقامة الحدود، وكان يجيب عنه الأسئلة الطارئة من الأقطار والبراوات الصادرة من علماء الأمصار ومكاتبة أهل الدول وغير ذلك من أمور الدين " ، فنهض الشيخ امباكي بهذه المهمة على أحسن وجه، وبذلك خلف لنا تراثا هاما من الفتاوى والأجوبة والرسائل.
وفي هذه العجالة سنحاول إلقاء الضوء بشكل سريع على جانب من تلك الأجوبة والرسائل.

أولا: الأجوبة العلمية
كان الشيخ امباكي في أجوبته يعالج موضوعات مختلفة في شتى مجالات العلوم الشرعية كالفقه والتفسير والتصوف،

أ- أجوبة من علم الفقه
إن أجوبة الشيخ الفقهية كثيرة وجلُّ ما عُثر عليه يدور حول مسائل الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والجنازة والميراث ونحوها مما تعم بها البلوى لدى المسلمين في منطقته. ومن تلك المسائل التي أورد فيها أجوبة شافية ( الذكر عند تشييع الجنازة – أخذ أجرة على صلاة الجنازة – غسل الصغير من قِبَل محرمه – النكاح في العدة – طلاق الغضبان – أكل ما ذبح الكافر – صرف الأوراق المالية – حكم العقد علي زوجة خامسة …)
وفي هذه الأجوبة الفقهية نلاحظ قدرة الشيخ على الموازنة والترجيح بين أقوال فقهاء المالكية وعلى اختيار أنسب الآراء لأوضاع قومه، وفي ذلك دليل على إلمامه بأصول المقارنة الفقهية وسعة اطلاعه على مصادر الفقه المالكي.
وقد علَّق العلامة الموريتاني عبد القادر بن محمد الكُملَيلي على تلك الأجوبة بقوله " هي في غايةِ التحقيق والإتقان فائضةٌ من بحور العلم والعرفان سالبةٌ الألباب بتحقيقاتها مالكةٌ للعقول بتدقيقاتِها جامعةٌ عذوبةَ الألفاظ وجزالةَ المعاني وإحكامَ الأصول والفروع مع انضباط المباني "

ب- أجوبة من علم التصوف
كانت أجوبته في التصوف أجوبةً عمليةً ومهمة تتعلق بقضايا حيوية يحتاج إلى معرفتها كل مريد سالك، ومنها: التعلق بدون مبايعة لفظية – التعلق بشيخ آخر بعد وفاة الأول – أخذ ورد الشيخ الخديم بعده – ما يعتقده المريد وقت المبايعة – دعاء ينوب الهدية – ما يدعى للشيخ الخديم – كيفية زيارة ضريحه الشريف (حكم الزيارة ومقصودها وآدابها وممنوعها ووقتها وأدعيتها)
وفي تناول المسائل المتعلقة بالتصوف، التزم الشيخ امباكي بوسو المنهج السني، منهج شيخه الشيخ الخديم (رضي الله عنهما) فكان يسند جميع أجوبته إلى النصوص الشرعية، الكتاب والسنة، كما أمسك عن الخوض في مسائل التصوف المثيرة للجدل مثل السؤال المطروح عن معنى المقولة المعزوة إلى الحلاج وهو: "ولدت أمي أباها"

ج – أجوبة في اللغة والتفسير
وجدنا من بين أجوبة الشيخ ما يتعلق بالنحو كأحكام "لا" النافية للجنس وأحكام حرف "قد"؛ وجوابُه في تفسير قوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطن في أمنيته إلخ [الحج] وتوفيقُه بين هذه الآية وقوله تعالى " إنهم عن السمع لمعزولون "[الشعراء] شاهدٌ على تمكنه من علم التفسير وأصوله وحرصه الشديد على الدفاع عن كتاب الله ونفي أي شبهة للتعارض بين نصوصه الشريفة.
هذا طرف من الموضوعات التي تعرض لها الشيخ امباكي، ولم نورد الأجوبة بنصوصها لأننا نريد فقط أن نشير إلى مدى تنوع الموضوعات ونترك من يريد التعرف على مضامينها ليطلع عليها في مظانها.

ثانيا: الرسائل
أما الرسائل التي كتبها الشيخ امباكي إلى الملوك وإلى السلطات الاستعمارية فعديدة، وكلها تشهد علي جرأته في السير مع الحق أين سارت ركائبه، كما تدل على اهتمامه بقضايا قومه وحرصه على مصالحهم; وإن كان أسلوبه في بعض الأحيان يتسم بديبلوماسية  بالغة. ومن بين تلك الرسائل نختار ثلاتة فقط على سبيل التمثيل.

١- الرسالة الموجهة إلى تينج تنورTeigne Tanor1
فقد كتب الشيخ هذه الرسالة لتحذير هذا الأمير من مغبة ما يمارسه أعوانه من أنواع الظلم والاضطهاد ضد مريدي الشيخ الخديم. وفي مستهل الرسالة يأمر الأمير بتقوى الله والتمسك بسنة نبيه وينهاه عن اتباع أهواء قومه في ظلمهم ويحذره قائلا :"إن الدولة لا تستقيم مع الظلم دائما" كما ينصحه بالتوقف فورا عن إلحاق الأذى بمريدي الشيخ حتي لا يثير غضبه لأنه لا يصبر على مثل تلك الأفعال الشنيعة وقد أوعد الله من عادى له وليا، ويأمره أيضا برد ما سُلب من ممتلكات هؤلاء الأبرياء ويقول " فاعلم بأن الشيخ بمب ولي كامل ولا يعرف الولي إلا الولي … "

٢- الرسالة الموجهة إلي حاكم  المستعمرات الفرنسية   برفيه BREVIE
تعد هذه الرسالة وثيقة مهمة في تاريخ  المريدية بعد انتقال الشيخ الخديم إلي جوار ربه،  لأن الشيخ امباكي كتبها الشيخ في فترة حرجة من حياة المريدين، حين بُثت شائعات عن وقوع نزاع وخلاف بين زعماء الطريقة حول "الخلافة"، فأراد الشيخ أن يضع حدا لتلك الشائعات ويدحض بأدلة قوية هذه المزاعم الكاذبة، فأوضح في الرسالة أنه لم يكن من المعقول – لأسباب وضحها- أن ينازع الشيخَ محمدًا المصطفى [الإبن الأكبر للشيخ] أحدٌ من إخوته أو أعمامه أو أصحاب والده في الخلافة، بل إن أعداء الطريقة – في زي الأصدقاء حسب تعبيره - هم الذين سارعو إلى تلفيق هذه الأكذوبة. ويبدوا أن الشيخ – رحمه الله - كان يهدف إلى الحيلولة دون تدخل السلطات الاستعمارية في الشؤون الداخلية للمريدين. ولهذا الغرض السامي كان ديبلوماسيا في لهجته بشكل مبالغ فيه، حسب رأي  البعض.

٣- الرسالة المفتوحة في شأن انغالاندو جوف Ngalandou Diouf2
كتب الشيخ امباكي في شأن انغالاندو مقالا على شكل رسالة مفتوحة بأسلوب أدبي جميل. والرسالة تدل على أن الشيخ كان له اهتمام كبير بالقضايا السياسية على الرغم من شدة زهده، وتنمُّ أيضا عن حرصه البالغ على الصدع بالحق؛ فقد ذكر الشيخ هذا السياسي بواجبه تجاه ربه وتجاه رعيته وأمره بتعمير البلاد وتفقد العباد وإنصاف المظلومين ومعاونة أصحاب الحرف على حرفهم والاهتمام بشؤون الفلاحين كما حذره من الخيانة وأكل الرشوة … إلى آخر ما في الرسالة من التوجيهات والإرشادات التي يحتاج إليها جميع الساسة في سائر العصور.

خاتمة
حاولنا بكل إيجاز أن نرفع الستار عن جانب من تراث الشيخ امباكي بوسو القيم بإعطاء فكرة عن أجوبته العلمية ومراسلاته التي تستحق أن يعتني بها الدارسون والباحثون والمهتمون بالتراث الثقافي الإسلامي في إفريقيا جنوب الصحراء. وأملنا كبير في أن طلبة العلم سيهتمون بدراسة هذا التراث وتحقيقه وإخراجه حتى تنتشر الفائدة.
لنتزيل نماذج من أجوبة الشيخ ورسائله اضغط  هنا 
سام بوسو عبد الرحمن


*بذل الأخ الفاضل حفيد الشيخ الأستاذ سيدي بوسو بن الشيخ مولاي مجهودا كبير في جمع كثير من كتابات الشيخ ونشرها في شبكة الإنترنت www.guede-sn.org كما قام الباحث الدكتور خديم سعيد امباكي بطباعة مجموعة منها في تركيا مع تعليقات قيمة فجزاهما الله خيرا.
1وهو آخر أمراء باولBaol من ١٨٩٠ إلى ٣ يوليو ١٨٩٤
2ولد في ١٤سبتمبر ١٨٧٥م في سانت لويس وتوفي ٦ أغسطس ١٩٤١ وهو سياسي سنغالي انتخب في البرلمان الفرنسي سنة ١٩٣٤

هناك 4 تعليقات:

  1. أبو مدين جخت10 يوليو 2012 في 6:35 م

    قرأنا مساهمة قيمة لصديقنا وزميلنا في الدراسة المفتش سام بوسو عبد الرحمن تحت عنوان: " إطلالة على أجوبة الشيخ امباكي بوسو ورسائله"
    ولا نملك بعد قراءتها إلا أن نشهد ـ وما شهدنا إلا بما علمنا ـ بأنه قد وفق كل التوفيق في هذه الإطلالة.
    فهو بفضل خطه المحكمة استطاع أن يحدثنا بإيجاز غير مخل عن الشيخ وعن منزلته العلمية وعن علاقته بالشيخ الخديم وعن تنوع العلوم التي كان يتقنها ويتصرف فيها تصرف الخبير المختص.
    وكان زميلنا في أسلوبه العلمي المتأدب دقيقا في تعبيره وفي اختيار ألفاظه، بارعا في عرضه للأشياء.
    وقد نبهنا في الخاتمة إلى أن الشيخ قد خلف تراثا ثقافيا يستحق العناية بالبحث والدراسة والتحقيق. فأملنا في زميلنا لا يقل عن أمله في الباحثين والدارسين والمحققين للقيام بهذه المهمة.
    الأخ والصديق المخلص : أبو مدين جخت

    ردحذف
  2. الأخ أبو مدين شعيب تياو10 يوليو 2012 في 6:39 م

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
    فجزاكم الله خيرا ووقاكم ضير، فالمقالة في قمة الأهمية والنفاسة، حيث تحسر الخمار عن علم من أعلام العلم والهدى في سنغال، وعالم من فحول العلماء الذين قدموا لبني جلدتهم خدمة تستحق كل الإشادة والتنويه، وذلك من جانب، ومن جانب آخر فهي تكشف القناع عن جهبذ من الجهابذة الذين كانوا يحتفون حول الشيخ الخديم ـ رضي الله عنه ـ كالهالة حول القمر

    ردحذف
  3. Inspecteur Cheikh Mbacke Dieng13 يوليو 2012 في 9:44 م

    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
    مقال ثري وعميق، ودال على مدى تبحر الرجال حول الشيخ في جميع أصناف العلوم، ومدى اهتمامهم وتفانيهم في نشر الدعوة الإسلامية بصفة عامة، وتعاليم الشيخ واتجاهاته وانتاجه في مجال العلم والدين بصفة خاصة.والجدير بالتنويه هو مراعاتهم بالمنهجية الملائمة لكل فن من فنون العلوم. وتعدد تخصصاتهم ،وإحاطتهم بموادهم ،وإلمامهم الواسع لما يحدث في زمكانهم
    وأود، أيها الأخ العزيز، والباحث الكبير، أن أقف على نماذج من الأجوبة والرسائل الأصيلة التي أسخى بها العالم العلامة الشيخ آمباكي بوسورضي الله عنه نماذج أطالعها
    ولا أنهي تعليقي إلا و أعبر عن امتنانناوافتخارنا واعتزازنا بالحهد الجبار الذي لازلت، ولا تزال تبذله لنشر العلم وبث الدعوة الإسلامية والرسالة الخديمية المريدية، فجزاكم الله عنا خير الجزاء، ووفقكم لمافيه رضا الله ورضا الشيخ...آمين
    أخوكم الشيخ آمبك جنك من كاولاك

    ردحذف
  4. جزى الله خيرا أخانا الفاضل/ سعادة المفتش: أ.سرين شام بوصو على هذه الإفادات القيمة عن هذا العلم الفقيه والحبر النبيه، وعن بعض كتاباته ومؤلفاته الثرية، وقد حان الأوان لتوجيه الباحثين والدارسين إلى هذا المخزون الثقافي والتراث المعرفي للعناية بها دراسة وتحقيقا، وقراءة وتوثيقا؛ لتأخذ مكانها اللائق بها في رفوف المكتبات الوطنية والعالمية، والله ولي التوفيق.
    مع تحيات أخيكم/ الدكتور محمد بن عبد الله صل- عفا الله عنه وغفر لوالديه وخاله-.

    ردحذف

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...