الأربعاء، 30 أبريل 2025

صفر الخروج، نعمة في طي نقمة ... عرض وتعليق

 

صدرت حديثا هذه الرواية الجميلة، وتفضل كاتبها أخي الباحث سرين امباكي لوح محمد، بإهدائي نسخة منها، وبحمد الله تعالى قرأتُها كاملة فوجدتها تستحق عناية كبيرة لأهميتها وقيمتها التاريخية والأدبية والروحية، فحاولتُ في هذه السطور عرضها بإيجاز قبل التعليق عليها لفتح شهية القراء والدارسين الذين لم يطلعوا عليها بعد.

العرض

استهل الكاتبُ روايته بوضع القارئ في مسرح أحداثها، وهو بلاد الولوف، فرسم لوحة فسيفساء تتناغم فيها الألوان والأصوات والحركات، وتنعكس فيها عادات البلاد وتقاليدها، وخاصة تلك التي كانت من رواسب الحقبة الجاهليةالسالفة قبل دخول الإسلام إلى المنطقة. ومن هذه المشاهد التي استحوذت فيها الأجواء الليلية على نصيب كبير، سيخرج القارئ بصورة تغمرها الرتابة والضبابية، كأنها  تتشوق إلى نور  بدأت أشعته تتوهج من ناحية طوبى.

دخل بنا الراوي طوبى حيث يتبلج النور وسط هذا الجو الماجن نوعا ما، وهنا يكتشف القاري مصدر اسم طوبى ويطلع على خارطة هذه البقعة الطاهرة وعلى طبيعة الحياة فيها. وعلى عكس صورة الحياة المتسيبة أو الفوضوية التي رسمها الكاتب عن البيئة السائدة في المنطقة المحيطة بطوبى كانت معاني الخدمة والعبادة والجدية هي التي تغزو ذهن القاري حين يجتاز حدودها ليتجول في أرجائها

ويا لها من مفارقة كبيرة بين تلك الليالي الساهرة بالرقص والغناء والخلاعة، وبين ليالي طوبى العامرة بالذكر والدعاء والتهجد، وكل ذلك في ظروف قاسية مما يضفى على انفجار ماء عين الرحمة حدثا له قيمة معنوية استثنائية.

وفي هذه الظروف كان النظام التربوي الذي وضعه الشيخ يمشي على قدم وساق. وقد أبدع الراوي أيما إبداع في وصف هذه التربية وبيئتها الحاضنة، فلم يغفل عن تصوير ما فيها من حيوانات وأشجار ونباتات وما يتعلق بها من معتقدات وممارسات. وينبهر القارئ هنا من تمكن الكاتب من التصوير الدقيق البليغ، ومن إلمامه بتقاليد سكان المنطقة وعاداتهم وسلوكياتهم تجاه تلك  الأشجار  والنباتات.

ولم تكن تلك الصور المخيفة جامدةً وصامتةً، بل كانت متحركة ومليئة بأصوات الحيوانات البرية وحركاتها. وكأن الكاتب يتسابق مع ذهن القارئ  فيجيب عن سؤال لا بد أنه سيطرحه على نفسه؛ وهو: لماذا اختار الشيخ هذا المكان بالذات دون غيره لإيواء دعوته وتربيته؟

وهنا يوضح بجلاء وبأسلوب أخَّاذ المغزى التربوي والروحي لهذا الاختيار. وكم كان الكاتب بارعا في توضيح ملامح التربية الخديمية وفي بيان سلوك الرعيل الأول من المريدين ومقاساتهم ومعاناتهم في بداية الدعوة، جراء المضايقات من قبل الحكام المحليين، وفي تشخيص أوضاعهم وتحديد السياق التاريخي الممهد لما سيجري بين الشيخ والسلطات الفرنسية المحتلة.

فيما سبق من المشاهد كان الراوي يركز على الوصف والتصوير الدقيق، ولكنه مع سرد إرهاصات الغيبة البحرية بدأت الأحداث تتوالى، من الخلوة التي رأى فيها الشيخ رضي الله تعالى عنه محبوبَه ومخدومَه صلى الله عليه وسلم إلى انتقاله إلى امباكي باري وما وراء ذلك من  الأسباب والملابسات والاستعدادات لزيارة بيت الله الحرام، وبشكل لطيف، تخللت سردَ هذه الأحداث قصةُ اكتشاف الشيخ للمنطقة التي أسس فيها طوبى، وكيف تم العثور عليه، بعد أن اكتشفه.

وتمهيدا لانتقال الشيخ إلى جلف قدم الكاتب للقارئ درسا مهما في تاريخ المنطقة وجغرافيتها البشرية والاقتصادية، مع تحليل دقيق لعوامل تدهور مكانتها التي كانت رفيعة قبل تفكك مملكتها.

مع وصول الشيخ إلى جلف، يُبحر بنا الكاتب لاكتشاف نظامه التربوي المحكم الذي وضعه للصغار والكبار والعلماء والمتعلمين، وآثار تلك التربية في سلوك المريدين، وإن كانت مدة المكث في جلف قصيرة. ويضعنا على الوضع السياسي المضطرب الذي كان  يُمثل أرضية خصبة لتنامي مشاعر الخوف والتوجس لدى سلطات الاحتلال الفرنسية.

ووسط هذه الأجواء المتوترة، يعرفنا الكاتب على بطل مغوار من أبطال البلد الذين أبلوا بلاء حسنا في الجهاد ضد المحتل الفرنسي وهو ألبوري انجاي أمير جلف الذي يصفه بـالمجاهد المجهول.

عاد الراوي ليضع الخيط  على يد القاري ليتتبع الأحداث التي سوغت للحاكم المحتل استدعاء الشيخ ومحاكمته في اندر، وافتتح هذه الأحداث والوقائع بحركة الزيارات المتتالية من الوجهاء للشيخ في امباكي باري مثل زيارة الأمير سمب لوب بندا والشيخ مامور فال انيانغ، وكذلك مكائد الجاسوس ما عبد لوح.

لم يكتف الكاتب بوصف الأجواء وسرد الأحداث، بل ضمّنها تاملاتٍ عميقةً حول خيار الشيخ خوض غمار الجهاد بنفسه على الرغم من استعداد مريديه التام للدفاع عنه وفدائه بأرواحهم ودمائهم. وكان المشهد حول تأهب الشيخ لتحمل أعباء هذا الجهاد وحده مفعما بمشاعر العطف والشفقة على هؤلاء الصغار الأبرياء، أبناء الشيخ وبناته ومحملا بروح التوكل على الله  والعزيمة.

وهنا تنتقل عدسة الراوي لتتابع تحركات مبعوث الشيخ أخيه ومريده الصادق، وما جرى بينه وبين الحاكم، ثم عودته إلى امباكي باري ومراوغات ما عبدُ لوح ليكتشف القاري حنكة تيرنو إبراهيم ويقظته وقدرته على الدفاع عن شيخه، ثم تتوقف العدسة أمام مشهد الوداع وفراق الأهل والأولاد.

وفي مشهد اللقاء المشهور بين الشيخ والقائد الفرنسي لكليرك في جيول  - إلى جانب وصف طبيعة المنطقة بدقة مذهلة - كان التركيز أيضا على تصوير الأجواء النفسية السائدة في هذا الموقف، كأنها تتجاوب مع الطقس المتقلب الخانق وخاصة للرجل الأبيض.

وفي مقابل الحالة النفسية المتردية في معسكر لكليرك، حالة الخوف والترقب لمفاجآت غير سارة، كانت الأجواء الروحانية من أذكار وأدعية وصلوات تغمر معسكر الشيخ وأصحابه. وفي كل الأحوال كان الشيخ سيدَ الموقف، فالحركة والسكون رهن إشارته هو، لا القائد لكليرك.


كشفت الرحلة من جيول إلى لوغا مرورا بكوكي للقائد الفرنسي عن طرف من شخصية الشيخ وصفاته، من صبر ومثابرة وهدوء وثقة بالله تعالى، كما كشفت عن مشاعر المحبة والتعلق والتعاطف التي أظهرها أهل كوكي المرتبطون بالشيخ ارتباطا تمتد جذوره في التاريخ عبر علاقات روحية وعلمية ودموية، وأهل بـلـلْ جوب أيضا. وقد حرص الكاتب في سرده لأحداث  هذه المرحلة على إبراز جوانب مهمة من أبعاد الشيخ الروحية والخلقية، جوانبَ تفسر سلوكه الهادئ والرزين وسكينته في تلك الظروف الحرجة.

 كان لتاريخ المنطقة وما فيها من بيوتات دينية  حظ وافر من البيان والتحليل مثل البيوتات الساكنة في المنطقة المحيطة بلوغا، وكذلك حروبها ضد الامراء المحليين، وقد خصص لفتةً لموقف الأسرة المبكية المتمسكة بالعلم والسلم فيما كان يجري، وهو موقف ورثه الشيخ وعززه.

وفي لوغا يحكي الراوي موقف وجهاء تلك البيوتات في محاولتهم لإقناع الشيخ بمواجهة الشيخ للمحتل بمساعدتهم ونصرتهم غير أنه أبى إلا أن يخوض هذا الجهاد بمفرده دون سفك خطرة دم، ومع ذلك أصرَّ عددٌ من المريدين  على مصاحبة الشيخ، فلجأت السلطات إلى حيلة ماكرة بفصل العربة التي دخلوها من القطار!

وخلال إقامة الشيخ في اندر انتظارا لمحاكمته الجائرة، يبرز الراوي مواقف وجهاء اندر النبيلة تجاه الشيخ من زيارتهم إياه، ومحاولاتهم لفكه من أسره، ولكن الشيخ قابلهم بتاكيد توكله على الله وتفويض أموره إليه، ولم يرض بأي وساطة أو طلب للعفو من السلطات.

وقد كان الكاتب مبدعا في التعبير عن المعاني والمراتب الإيمانية التي كانت تتجلى من أحوال الشيخ وكتاباته، ويعيد في ذاكرة القارئ أحوال الأنبياء والمرسلين في مواجهة المحن ونصرة الله عز وجل لهم، ويستخلص منها دروسا وعبرا.

وينجح الراوي أيضا في جعل القارئ يعيش فعاليات جلسة المحاكمة ويتابع تفاصيلها. ويعقب  مشهد المحاكمة حوارٌ مليء بالدلالات بين الشيخ وأحمد انجاي ما بيي، ثم يسدل الستار على هذه الحلقة بمشهد جميل لكنه يحمل مغزى خفيا : فمشهد المطر وما رافقه من جو ثقيل ورياح كثيفة  ورعد وبرق يعقبه هطول مياه غزير تروي البلاد فتراها "راضية أرضها عن سمائها ومؤمنوها عن رازقهم الرحيم" كأنه رمز لغيبة الشيخ البحرية، حيث عاشها المريدون في خوف وحزن وتوتر إلا انها في حقيقتها وباطنها خير ونعيم كلها للعباد والبلاد، أو (نعمة في طي نقمة)!

واصَلَ الراوي سيره مع الشيخ عند نزوله في دكار وكان وصفه لما عاناه الشيخ في تلك الليلة، وهو صائم، مما لا تكاد تتحمل قراءته، ويكاد القلب يذوب من أجله ..وهو المبيت الذي يشير إليه الشيخ بقوله إذا ذكرت ذلك المبيت

واختتم الكاتب روايته بمشهد السفينة الراسية في الميناء والتي ركبها الشيخ ليلة الجمعة  وتابع بعض اللحظات الأخيرة قبيل انطلاق السفينة ...

التعليق

إن رواية أخينا سرين امباكي ليست مجرد رواية خيالية، فهي رواية مبنية على أحداث تاريخية حقيقية نسج خيوطها فأحكم نسجها، وحولها إلى مشاهد حية وألواحٍ متحركة فاتنة بأسلوب بديع جمع بين السرد والوصف والتأمل، ونجح في ربط الأحداث بسياقاتها الثقافية والسياسية دون تجريدها من خلفياتها الربانية التي كانت تحيط بحياة الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى، الشخصية المحورية للرواية.

وتجمع الرواية بين الشحنات الروحية والمعطيات التاريخية والملابسات السياسية، فلم تغب عبر تسلسل أحداثها وتشابكها ذلك الترابط الوثيق بين البعدين المادي والروحي، بين الظاهر والباطن  في حياة الشيخ،  ودائما كان الثاني يتحكم على الأول.

وتستوقف قارئَ الرواية عدةُ جوانب، ولن يدري أيها أولى باستدعاء انتباهه:  هل يتعجب من جمال أسلوب الكاتب وسلاسته وجمع لغته بين  الرقة والجزالة في آن واحد؟

أم ينبهر من ثقافته الواسعة وإلمامه الكبير بتاريخ المنطقة وجغرافيته الطبيعة والبشرية؟ أم من قدرته الفائقة على الوصف الدقيق والشيق للأشخاص، والأماكن، والمناظر الطبيعية، والأحوال النفسية، والأجواء الروحانية؟ وفوق ذلك كله تستوقف القارئ معرفة الكاتب بحياة المريدين الأوائل وسلوكياتهم وطريقة تفكيرهم وآدابهم...

ولا يمكن للقارئ أن يتمالك حينما يسرح به الرواي في وصف الشيخ الخديم خَلقا وخُلقا وسمة وسلوكا بأجمل العبارات وأدقها وأصدقها، ويمكن أن يستشف من خلال ذلك الوصف الرائع تلك المحبة الشديدة التي يكنها الكاتب للشيخ رضي الله عنه، وهي محبة تتجلى من خلال سطور هذه الرواية بشكل واضح.

إن هذه الرواية في نهاية المطاف تعد – في نظري-  من الروايات التاريخية التي سيكتب لها الخلود في مجال الأدب العربي عموما والأدب الصوفي خصوصا والأدب المريدي بصفة أخص، وستشكل معينا عذبا لمن يريد التعرف على منهج الشيخ  في تربيته وتجربته الروحية، وأسلوبه في جهاد الأعداء،  أو على آداب المريدين وتاريخ المريدية، أو على التاريخ الإسلامي في غرب إفريقيا، وكذلك من يريد التعرف على تاريخ منطقة جلوف وانحامبور وكجور وباول في القرن التاسع عشر الملادي، أو من يريد الوقوف على عادات المنطقة وتقاليديها وأعرافها في تلك الحقبة.

جزى الله تعالى خيرا المؤلف سرين امباكي لوح محمد

ورضي عن شيخنا أحمد الخديم  وعن مريديه الصادقين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقٌ على كتاب الدكتور شيخنا خديم امباكي بعنوان "التوحيد في فكر الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه ومواقفه

فقد كنتُ أشعر في قرارة نفسي بضرورة دراسة الفكر الخديمي بمقاربة مختلفة عن المقاربات السطحية التي تعتمد على التصنيفات السهلة، مقاربةٍ جديدة تل...