الجمعة، 29 مايو 2009

المريدية والسياسة ... نظرة مستقبلية

إن علاقة الطريقة المريدية بالسياسية تعتبر من القضايا التي حظيت بقدر لا بأس به من الدراسة والتحليل من المنظور التاريخي، ولكن مسألة العمل السياسي في إطار مشروع إستراتيجي خاص، لم تطرح كثيرا من قبل المريدين أنفسهم، وإن وُجد لدى بعضهم شعور بضرورة التحرك في هذا المجال. ومن هنا ينبغي طرح الخيارت المحتملة أمام المريدية في ظل الحياة السياسية الراهنة و التطورات الحالية.

ففي واقع الأمر، لم تكن المريدية، منذ ولادتها، بمعزل عن الحياة السياسية في السنغال؛ بل ما زال ولم يزل حضورها قويا في المسرح السياسي. بيد أنه لم توجد، بشكل جلي، مؤشرات تدل على وجود محاولات، أو نية مبية، لدى زعماء الطريقة، لتوصيل أبنائها إلى سدة الحكم أو لمزاولة السلطة بأنفسهم بصفة مباشرة؛ وإنما كانت لهم مواقف سياسية تمليها عليهم الظروف أوالأوضاع.

و قد اختلفت آراء المحللين في تقييم تلك المواقف؛ فمنهم من يرى لها مبررات مقبولة باعتبارها «مواقف تمليها المصالح الاستيراتيجية للسنغال وللمريدية »(الباحث شعيب كيبي، المريدية والسياسة، ٢٠٠٩)، ومنهم من يرى أن الساسة، في الحقيقة، هم الذين نجحوا أحيانا في استغلال نفوذ "الشيوخ" لخدمة مطامحهم السياسية دون أن يكون لهؤلاء تأثير حقيقي في القرار الساسي أو في توجهات الأنظمة الحاكمة. ومن المراقبين الأجانب من يعلل علاقة الشيوخ بالسلطة بالنفعية الآنية المتبادلة بين الطرفين، وخاصة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي (المريدون بين الطوباوية والرأسمالية، سوفي بافا و دانيال بليتراخ، لو موند دبلوملتيك، نوفمبر ١٩٩٥)

وفي السنوات الأخيرة، وبناء على التطورات الديمقراطية والتغيرات الطارئة في الحقل السياسي، لوحظت وجوه بارزة تنتسب للمريدية تتقلد مناصب عليا في الدولة ( رئاسة الدولة، رئاسة مجلس الشعب ومجلس الشيوخ، الوزارات ...)، كما بدأ المريدون العاملون في بعض الإدارات الحكومية يتحررون شيئا فشيئا من ربقة الخوف من إظهار هويتهم المريدية على الملأ.

ولكن وصول بعض أبناء الطريقة إلى مناصب عليا في الدولة، سواء كان بجهودهم السياسية الفردية، أو بمساعدة من زعمائها – وإن ساهمت في كسر بعض الحواجر المعنوية - لم يفد الطريقة إفادة كبيرة، في رأينا، لا من الناحية المادية، من حيث توفير أو تعزيز مؤسسات تربوية وثقافية واقتصاية واجتماعية، تجر النفع لأبناء الوطن بشكل عام وللمريدين بشكل خاص، وتسهم في إصلاح المجتمع، ولا من الناحية المعنوية، من حيث تجسيد قيم المريدية وتعاليمها عبر أعمالهم الإدارية وممارساتهم اليومية. وقد يتولد من ذلك إحساس لدى بعض المريدين بعدم جدوى تأييدهم لأشخاص يدعون التعلق بالشيخ الخديم دون أي التزام بتعاليمه، في سلوكهم ومعاملاتهم.

ومن ناحية أخرى، ظهر في موقف الخلافة المريدية، خلال العقدين الأخيرين، نوع من الحياد تجاه القوى السياسية المتنافسة التي كانت تسعى لخطب وُدها في المواسم الانتخابية، الأمر الذي أعطى انطباعا لعديد من الأتباع بأن لهم استقلالا كاملا في خياراتهم السياسية، في الوقت الذي ازدادت قناعاتهم بقوة تأثير أصواتهم الانتخابية؛ وأصبح الصوت الانتخابي سلاحا يُشهر أمام السلطات المنتخبة في حالة فشلها في إيجاد حلول مرضية للمشكلات الاقتصادية المعضلة.

وفي ظل هذه الظروف التي تبشر بمزيد من الانفتاح في المناخ السياسي، وتنذر في الوقت نفسه بمزيد من التأزم في الأوضاع الاقتصادية، وتشهد تفجر المعلومات بفضل التكنولوجيات الجديدة ووسائل الإعلام المختلفة، أصبح من اللازم، في نظرى، مراجعة علاقة المريدية بالسياسية ومحاولة تحديدها بشكل إجرائي.

وهنا تأتي عدة تساؤلات: هل تتبنى الطريقة موقف الحياد وعدم التدخل في الشؤون السياسية مع إطلاق سراح أتباعها للتحرك داخل الأحزاب السياسية المختلفة، حسبما تمليه عليهم مصالحهم وقناعاتهم الشخصية؟ أم تتدخل في الشؤون السياسية لتأييد الأطراف التي ترى في تأييدها مصلحة لأبنائها وللوطن فتساعدها بنفوذها وقوتها، على الوصول إلى السلطة أوالبقاء عليها؟ أم تسعى إلى المشاركة الفعلية في العمل السياسي بغرض توصيل أبنائها إلى مراكز اتخاذ القرار؟ أم ...أم ؟

ومهما اختلفت وجهات النظر حول هذه المواقف فإني أرى من الضروريات الملحة، في ظل هذا المناخ السياسي، أن يعمل المهتمون بالسياسة وبمستقبل البلد من المريدين على بلورة وصياغة رؤية سياسية استراتجية متميزة، واضحة المعالم والأهداف، مبنية علي أصول المريدية وتعاليمها، وذلك لعدة أسباب منها:

أولا: أن المريدية، بما فيها من تعاليم ومبادئ وقيم، يمكن أن تكون مرجعية لتحديد سياسات تربوية واقتصادية واجتماعية وبيئية تلبي مطالب المواطنين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، وتشكل أساسا لتنمية البلاد تنمية شاملة.

ثانيا: أن المريدية تزخر في المجالات المختلفة بالكفاءات اللازمة القادرة على بلورة رؤية استراتجية أصيلة تمثل إطارا جيدا لتوحيد وتنسيق جهودها، وتضع في اعتبارها التحديات التربوية والاقتصادية والاجتماعية... التي تواجه المريدين بشكل خاص والمواطنين بشكل عام.

ثاليا: أن غياب رؤية استراتجية واضحة المعالم للمريدية تجاه الشأن السياسي قد يفسح المجال لاستغلال عواطف ومشاعر جمهور غفير من المريدين لتحقيق مكاسب سياسية شخصية باسم الطريقة على حساب المصلحة العامة، وفي ذلك خطورة كبيرة تتمثل في تحميل المريدية فشل أشخاص يحسبون عليها ولا يجسدون تعاليمها.

رابعا: أنه سيكون من الصعب توعية العامة في المريدية بهدف تعبئتها وتوحيد كلمتها سياسيا في المستقبل، إذا لم تتضح المبادئ أوالرسالة التي يجب أن تتحرك من أجلها أو تدافع عنها والتي تمثل معايير لاختيار من يمثلونهم؛ الأمر الذي قد يحول هؤلاء العامة إلي لعبة تتلاعب بها الأطراف المتنافسة على السلطة، أو إلى سلعة في أيدي ذوى النفوذ الطامعين.

هذه بعض من الأسباب التي تجعل عملية إعادة النظر في العلاقة بين المريدية والسياسة ضرورة ملحة، وخاصة في هذا الوقت الذي ينكب فيه المفكرون والساسة والمجتمع المدني على وضع تصورات مستقبلية حول مصير البلد في مختلف مجالات الحياة.
ولا أعتقد أن للمريدية، أو لغيرها من القوى الدينية، محلا في اعتبارات هؤلاء وتصوراتهم، إن لم يكن محاولة لإقصائها عن المسرح السياسي وعن دوائر اتخاذ القرار، بدليل تشبثهم بعلمانية الدولة واستماتتهم في حمايتها وتأكيدها وتخليدها.

فالظروف إذن حاسمة ومصيرية، وليست وقتا لأحلام اليقظة أو للتلاعب بالعواطف والخيالات أو للجري وراء المصالح الشخصية الآنية، وإنما للتفكير الجاد وللسعي الحثيث نحو إيجاد وبلورة استراتجية بناءة واضحة في مختلف المجالات ولا سيما في المجال السياسي الذي – شئنا أم أبينا - يتحكم في جميع المجالات الأخرى ويحدد مصيرها أو يؤثرفيه بشكل واسع.

بقلم / سام بوسو عبد الرحمن
تياس مايو ٢٠٠٩
تعليق للأخ المفتش هارون انيانغ

الاثنين، 9 فبراير 2009

وقفة مع قصيدة القاضي مَجاخاتي كالا

بقلم / سام بوسو عبد الرحمن
قال القاضي :

1. مُربَّونَ قَدْ غَضُّوا مِنَ اصْواتِهم غَضَّا﹡كأبصارِهِم حتى يُظَنُّوا معًا مَرْضَـى
2. أرَادوا أطبآ أوْ مساكينَ هَمَّهـــــم ﹡ذَوُو صدقاتٍ مُقرضوا رَبِّهم قَرْضَــــــا
3. فلمَّا أَدَرْنَا بَيننا القولَ ســــــاعـــةً ﹡ عرضــتُ عليهمْ خدمـةً كَبُرَتْ عَرْضًا
4. فَهَانَ عليهم عَرضُهَا وتَنـَـــاوَلُـــوا﹡فؤوسًا بأيدي أقويآ قبضوا قبْضـــــا
5. فـغابوا وأصواتُ المعــاول لم تغِبْ ﹡كأسيافِ بدرٍ يومَ حقُّ النبي قد ضَـآ
6.وأمُّوا فـــلاةَ الأرض أيــة غيضـــــةٍ﹡كثيرة أشجارٍ مُشقَّقة الأعـــضـــــــآ
7. وولوا حُـفــاةً لم يكونوا لـــــيعبـــأوا﹡بِحَرٍّ وشوكٍ بلْ بمَنْ حكمُه مُمْضـــَى
8. ولم يَلـــقَ منهم واحدٌ أجنبــــيـــــةًتحاذيه إلا وهْــوَ أطرقَ أو أغْضـــــَى
9. وما رفعوا الأصواتَ إلا بذكرِهم ﹡وما أخَّروا الأوقاتَ نفلاً ولا فــرضــا
10. وتاللهِ لو أن المربِّيَ قـادهــــــم﹡ليَنفوا عن الأرضِ العِدَى زلزلوا الأرضا


مناسبة القصيدة
حرر الشاعر الكبير المفلق قاضي مجخت كالا هذه الأبيات لوصف مريدي الشيخ أحمد بامبا ومدحِهم، حين مدُّوا إليه يدَ العون في حقوله.

تحليل الأبيات

عرض الشاعر في هذه الأبيات العشرة فِلْمًا قصيرا وغنيا بالمعاني السامية، ضمَّنه مشاهد رائعة، وصورا ناطقة، ليقدم وصفا لمجموعة من مريدي الشيخ الخديم، رضي الله عنه، منوِّها بما قاموا به من عمل بطولي، وبما تحلوا به من خصال حميدة، والتزموا به من آداب سلوكية حسنة، وذلك بأسلوب أدبي بليغ ومحكم.

وقد أتقن الشاعرُ حبكَ فِلْمِه بتسلسل منطقي جميل وأخاذ؛ استهله بوصف هؤلاء المريدين بأنهم "مُرَبَّوْنَ" تربية حسنة ظهرت آثارُها في سلوكهم ومعاملاتهم، فهم يلتزمون غضَّ أبصارهم وخفضَ أصواتهم حتى يُخيَّل إلى من لم يطلع علي حقيقتهم، أنهم إما "مرضى" ضعفاء، يلتمسون أطباء معالجين، وإما "مساكين" معوزون يترقبون وصولَ من يتصدق عليهم ويحسن إليهم.
ولكن، سرعان ما تبدد لديه هذا الانطباع الأول، حين باشرهم وتعامل معهم؛ فقدا اكتشف فيهم شجاعةً فائقة وسرعة استجابةٍ مذهلةً، فلم يتردد هؤلاء المربون في قبول ما عرضه عليهم من خدمة جليلة وكبيرةٍ في عينه، بل استصغروا تلك الخدمة المطلوبة منهم، "فهان عليهم عرضها".
ثم شرع الكاتب في إبراز صفاتِ الرجولة والقوة والإقدام، عند تأهُّبِهم وانطلاقِهم السريع إلى العمل: تناولوا فؤوسا بقوة وثبات، وتوجهوا إلى الغابة الكثيفة، فغابت أشخاصهم من بين الأشجار الكثيرة الوارفة، ولكن أصواتَ معاولهم لم تزل تطرق الأسماعَ لقوة الضرب وتواليه؛ فهي تعمل عملها في تقطيع الأشجار بشدةٍ تُذَكِّرُ بسيوف المجاهدين يوم معركة بدر الكبرى. وتتجلى سرعةُ الحركة وشدة القوة وعلو الهمة في الأفعال المستخدمة بصيغة الماضي" تناولوا فؤوسا، قبضوا قبضا، أمّوا فلاة الأرض، ولوا حفاة".

وما أقوي تحملهم وجلدهم ومثابرتهم! فلم يكترثوا، وهم راجلون حفاةٌ، بشدة حرارة الأرض ولا بكثرة الأشواك وحدتها؛ لا لأنهم فقدوا الشعور والإحساس، ولكن دوافعهم الإيمانيةَ أذهلتهم، واستحوذ عليهم استحضارُ عظمةِ مَن لا يُرَدُّ حكمه سبحانه وتعالى.

وهذه الروح الإيمانية، إلى جانب التربية، هي التي أثمرت فيهم العفةََ والالتزامَ بحفظ الجوارح، وخاصة العين واللسان، عن مخالفة أوامر الله تعالى، ولذا لا يُصوِّبون بصرهم نحو امرأة أجنبية يلقونها، ولا يرفعون صوتهم إلا أثناء ذكر الله تعالى، ولا يلهيهم تحمسُهم للعمل الذي هم مكبون عليه عن أداء الصلوات المفروضة والمسنونة في أوقاتها.

وفي ختام هذا المشهد الرائع، أظهر الشاعرُ انبهارَه، وأتي بحكم استخلصه من واقع تعاملهم مع هؤلاء المريدين الهيِّنين الليِّنين في مظهرهم، والأقوياء الأشداء في مخبرهم؛ فأقسم بالله بأنه لا يعجزهم شيء أمرهم به مربيهم؛ فلو قادهم لمحاربة الأعداء ولإخراجهم من المنطقة لزلزلوا الأرض من تحت أرجلهم! وكلمة "قادهم" توحي بملازمتهم امتثال أوامر مربيهم.

ولقد أحكم شاعرنا المُفلق تصويرَ مشاهده بأسلوب سردي سلس، لا تكلف فيه ولا غموض؛ فجاءت الصور البيانية بانسياب وتناسق، كما في تشبيه المعاول وحركاتها المتتابعة بسيوف المجاهدين يوم معركة بدر الكبرى!

وما أعجب وأحسن التقابلَ بين صورة المطلع المفعمة بمعاني اللباقة والرقة والليونة وصورة المنتهى التي كلها قوةٌ وشجاعةٌ وإقدامٌ!.
قارن إن شئت بين العبارتين " غضوا من أبصارهم" في البداية و"زلزلوا الأرض" في النهاية.

وهكذا تكون شخصيةُ المريدِ الكامل التربية: أدبٌ في المعاملة، وجديةٌ في العمل، والتزامٌ في السلوك، ومواظبةٌ في العبادات، وشجاعةٌ في جميع المواقف، كما رسمها شاعرنا رحمه الله تعالى بهذه الروعة وهذا الإتقان.

سام بوسو عبد الرحمن

الأربعاء، 14 يناير 2009

تعليق وجيز على كتاب الدكتور أحمد لوح

كيف نعيد للمسجد مكانته؟

[وأي مسجد يعنى الكاتب !
]
قرأت، منذ فترة، الكتاب الذي يحمل عنوان "كيف نعيد للمسجد مكانته" فوجدته قيما ومفيدا في موضوعه؛ فقد تناول فيه المؤلف البارز الدكتور أحمد لوح، بأسلوب واضح سلس ومحكم، مسائلَ عديدة تتعلق بالمسجد وأحكامه وبقضايا متصلة به، ووثقها بأدلة قوية ووجيهة. و منهجية صاحبنا في الكتاب تنِمُّ، بحق، عن مقدرة وحنكة وعمق في التفكير.

ولكني قدا ستوقفني المنهج الذي يقترح المؤلف أن يُدرس في المساجد، لأنه اختار كتبا ينتمي أصحابها جلهم إلى مدرسة فكرية معروفة تسمي نفسها "السلفية" ويسميها آخرون "الوهابية" نسبة إلى الشيخ محمد عبد الوهاب الشهير (رحمه الله).

وهذه المدرسة معروفة بعدائها السافر لكل ما يمت إلي الأشعرية والصوفية بصلة، وقد وصل الأمر ببعض أفرادها إلى إقصاء هاتين الطائفتين من زمرة أهل السنة والجماعة آتين في ذلك بقطيعة إبستيمولوجية سافرة وبتفنيد تحَكُّمي لما هو معروف في تاريخ الفكر الإسلامي ومُدَرسٌ فى أغلب مدارس وجامعات العالم الإسلامي من أن الأشعرية والماتريدية هما التياران المجَسِّدان، في علم التوحيد، لمذهب أهل السنة والجماعة، وأن الصوفية ليست مقابلة لطائفة أهل السنة والجماعة بدليل أن عديدا من عمالقة هذه الفرقة - بل ومن بين العلماء الحنابلة الأجلاء - وربما غالبيتهم، كانوا صوفيين حقيقيين.


وما يُهمنى قوله حول المنهج المقترح في الكتاب هو أنه : إذا كانت "أل" المصاحبة لكلمة المسجد عهديةً تشير إلى مساجد أهل السعودية والمنتمين إليها فكريا، فلا غبار على المنهج، وأما إذا كانت للجنس لتعم الكلمة جميع مساجد العالم الإسلامي، فعندنا في السنغال مناهج أراها أكثر مواءمة لمساجدنا، ولا تقِل فعالية ونجاعة في تزويد رُواد مساجدنا هذه بالتربية الإسلامية الصحيحة المطلوبة. هذا، إذا لم يكن الهاجسُ الحقيقي وراء اقتراح المنهج تحويلَ مساجدنا إلي مراكز لنشر مذهب فكري معين!
سام بوسو عبد الرحمن

الاثنين، 5 يناير 2009

طوبى والحياة السياسية


كان الشيخ الخديم رضي الله عنه مدركا لأهمية البيئة الصالحة في كل مشروع تربوي حقيقيي. وقد وضع، فور إعلان دعوته - التي عرفت فيما بعد بالمريدية - في مقدمة أولوياته إيجادَ مكان ملائم يتسنَّى له فيه غرسُ مبادئه فيمن لبوا دعوته وتربيةُ الرعيل الأول من أتباعه؛ فحرص منذ اختياره لطوبى، هذا المحل الذي سوف يأوي حركته الإصلاحية الوليدة، على رسم الصورة التي يريدها له فضمنها قصيدته المشهورة مطلب الفوزين.
وقد رسَخَ في ذهنية المريدين جميعا أن لطوبى حرمتَها التي تُرعَى ومكانتها التي تراعى، وانصبت جهود خلفاء الشيخ المؤسس وكافةِ أبنائه وكبارِ أتباعه في رعاية هذه الحرمة وحمايتها من سائر أنواع الانتهاكات والسلوكيات غير اللائقة؛ فتميزت الحياة في المدينة المحروسة نسبيا بالهدوء والانسجام والصفاء مقارنةً مع الحياة في المدن الأخرى.
وتَوَفرت لأهل المدينة فرصة ذهبية ليقدموا للعالم نماذجَ يمكن الاحتذاءُ بها في ميادينَ مختلفةٍ من ميادين الحياة : التربية والاقتصاد و الإدارة ... وحتى السياسة.
ومن المؤسف حقا أنه، بدلا من تقديم نموذج لعملية سياسية هادئة ومهذبة مبنيةٍ على مبادئ خلقية دافعُها الحرصُ على خدمة المصلحة العامة وعلى المساهمة في تحقيق الأهداف التي كان الشيخ يتوخى تحقيقها في مدينته، نرى الآن جميعَ أمراض العملية السياسية السنغالية ومساوئها تبدأ في التغلغل داخل أوساط السياسيين الموجودين في المدينة، ومنها :
  • تبادل الاتهامات والشتائم وكلمات بذيئة،
  • استعمال أساليب عنيفة أحيانا لإسكات الخصم أو لإقصائه،
  • تحويل السياسة إلى مجرد عملية ارتزاق،
  • فقدان أي برنامج تنموي حقيقي.

وإذا كانت ممارسة السياسة حقا من حقوق المواطن يضمنها له دستور الدولة في أي مكان فلا مانع من احترام خصوصيات الأماكن التي تمارس فيها، وفي هذا الإطار نفهم بأن منع الأنشطة السياسية في طوبى يخص تلك الممارسات المنافية لحرمة المدينة والتي ترتكب باسم السياسة فأصبحت مرادفة لها.
وفي نظري قد حان الأوان لأصحاب القيم والغيورين على تعاليم الشيخ ومبادئه السامية أن ينظروا في شأن المشاركة السياسية - ولو على المستوى المحلي- سعيا منهم لتحقيق أمنية الشيخ وأهدافه التنموية والتربوية في طوبى، وحتى لا تتحول المدينة المحروسة إلى ألعوبة لمحترفي السياسة وهُواتِها الذين قد لا يتمتعون لا بالكفاءة ولا بالنزاهة الضروريتين للحفاظ على مصالح المدينة المحروسة ؟!!
سام بوسو عبد الرحمن
يناير ٢٠٠٩

مقالات ذات صلة



الخميس، 20 نوفمبر 2008

كيف يخرج المسلم من الأزمة الروحية والخلقية؟

محاضرة ألقيتُها في جامعة غاستون برجي
بمدينة سانت لويس السنغالية
سام بوسو عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ووضع فيه قدرات جسمية وعقلية وروحية، وجعل له إرادة ليتمكن من تسخير هذه القدرات لتحقيق سعادة دنيوية وأخروية، ورسم له الطريق بواسطة الرسل عليهم السلام والكتب المنزلة " ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"
و نظمت هذه الرسالاتُ، بتوجيهات وتعليمات إلهية، علاقات الإنسان بربه وبنفسه وببني جنسه، وبمراعاة هذه التوجيهات والقوانين الأخلاقية تتحقق للبشر التوازن النفسي والروحي والاجتماعي.
وقد يتحكم في البشر أهواء نفسية فتحرفه عن الجادة وتحول دون مراعاة هذه المبادئ فينزلق في هوة عميقة من الأزمات
وقد شهد العالم ومازال أزمات عديدة ومختلفة في الحدة والتعقيد، ولم تخل فترة من فترات الأزمات ممن يتصدون لها من فلاسفة ومفكرين أو دعاة مصلحين انطلاقا من معتقداتهم وخلفياتهم الفكرية.
وعالمُنا المعاصر، نظرا لطبيعته المعقدة، يشهد أشد الأزمات وأكثرها تعقيدا وأوسعها رقعة، فلم يكد مجتمع من المجتمعات يسلم من براثنها.
و التساؤل عن"السبل التي يمكن أن يسلكها المسلم أمام هذه الأزمة الخلقية والروحية في عالم يتسم بالفراغ" يأتي بالفعل في محله وفي وقته.
فما أجدر بالشباب المثقفين المومنين بالقيم الإسلامية أن يتناقشوا مثل هذه القضاياالحاسمة الملحة. فهؤلاء هم المستقبل وعليهم يتوقف مصير الأمة.

وسنحاول من خلال هذا العرض الموجز
  1. أن نرسم صورة تعكس بشكل مقتضب مظاهر الأزمة الروحية والخلقية في عالم اليوم،
  2. أن نتطرق إلى الأرضية الفلسفية والفكرية التي أنبتت بذور هذه الأزمة،
  3. أن نتعرض لما يمكن أن يكون مسلكا للنجاة من خضم هذه الأزمة ....
لعلنا نخرج من هذه القاعة بتصور أكثر وضوحا قد يساهم في توجيه سلوكنا للخروج من المأزق الذي يشهده العالم.

I.مظاهر الأزمة الروحية والخلقية

إن المجتمع الإنساني يتكون من أفراد وجماعات. ونواة المجتمع الأولى هي الأسرة، وفوقها مؤسسات أوسع من سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية.
وفي جميع هذه المستويات تبرز مؤشرات الأزمتين الروحية والخلقية.
على المستوى الفردي نجد:
  • تقديس الثروة المالية بشكل قد أدى بكثير من الناس إلى استعمال جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة للحصول على الأموال الطائلة ويشهد لذلك تفشي ظاهرة القمار والدعارة وتجارة المخدرات وبيع الأطفال والجرائم المسلحة فالإحصائيات حول هذه الظواهر مروعة.

وفي أمريكا على سبيل المثال"يذكر ألين بيور وإيميل بيريز في كتابهما (أمريكا: العنف والجريمة) أن معدل الجريمة الأمريكية - مثلاً - طبقاً لسنة 1998م بلغ ما يلي:
1وقوع جريمة سرقة عادية كل 3 ثوان.
2وجريمة سطو كل 14 ثانية.
3وجريمة سرقة سيارة كل 25 ثانية.
4وجريمة سرقة مقرونة بالعنف كل 60 ثانية.
5وجريمة اغتصاب كل 6 دقائق.
6وجريمة قتل كل 31 دقيقة.

ويقدر إجمالي كلفة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة (عدا المخدرات) بأكثر من 700 بليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يجاوز إجمالي الدخل السنوي الفردي في نحو 120 دولة في العالم. "
ويقدر عدد المتعاطين للمخدرات بنحو أكثر من 12 مليون شخص في أمريكا وحدها. 1

  • نزعة فردية متزايدة بدأت تُغيِّب قيما اجتماعية عديدة كاحترام الآباء والمعلمين وكبار السن ومراعاة آداب التعامل مع الآخرين

وعلى المستوى الأسري نشهد :
  • تحولا في النسيج القيمي للأسرة فقد ظهرت تشكيلات عائلية متنوعة وغريبة كالأسرة المثلية ( أنثى/أنثى وذكر/ذكر). والشواذ حصلوا في عديد من الدول على اعتراف رسمي ومما نتج عن انهيار قيمة الأسرة كثرة الأطفال غير الشرعيين وتفشي الأمراض المعضلة كالإيدز وكثرة حالات الطلاق وغير ذلك. ففي فرنسا مثلا بلغت نسبة الولادة دون الزواج 40% من مجمل مواليد 1997.
  • والأخطر من ذلك أن الشذوذ تحول من انحراف إلى" خيار" والدعارة من ظاهرة لا أخلاقية إلى حالة قانونية.

على مستوى الحياة السياسية نلاحظ:
  • تفشي الفساد والرشوة على جميع القطاعات الحكومية في جميع الدول تقريبا.
  • تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة لدى رجال السياسة.
  • سلوكيات غير أخلاقية: وعود كاذبة تبادل الشتائم والاتهامات.

على مستوى الحياة الاقتصادية تسود ممارسات لا أخلاقية مثل:
  • أعمال الغش من أجل تحقيق أرباح
  • وأعمال التجسس والتزوير في البضائع
  • التحايل على حقوق العاملين

على مستوى الحياة الدينية تبرز ظاهرة
  • النفاق والشكلية لدي كثير من المتدينين
  • حصر التدين على هامش الحياة العامة
  • عمليات التشهير والتشنيع بالمراجع والمقدسات الدينية
  • تفشي الشعوذة والتحايل

وهذه الظواهر تعكس الأزمة الخلقية والروحية التي يعيشها العالم، وبالتأمل نجد أن هذه الأزمة تنبت على أرضية فلسفية وفكرية جعلتها متنامية ومنتشرة في جميع مناطق العالم.


II.الأرضية الفلسفية والفكرية للأزمة الروحية والخلقية

الأزمة الروحية والخلقية لم تتولد اعتباطا أو عفويا وإنما نبتت في أرضية فلسفية خصبة وتوجهات فكرية فرضت سيطرتها على مناطق عدة في العالم بوسائل وطرق متعددة ومختلفة.
وستتضح لنا جذور الأزمة إذا وقفنا على هذه التيارات الفلسفية التي غيرت أنماطا الحياة في الغرب وشكلتها ثم أفرزت المشكلات السلوكية التي تعرضنا لها، ولذا نشير بدون الخوض في التفاصيل إلى الفلسفة المادية والفردية والبراغماتية. وهذه هي أهم التيارات الفلسفية وأقواها في عالمنا المعاصر.

1-المادية.
فهذه الفلسفة تستبعد وجود أي مبدأ روحي وتعتبر أن المادة هي الحقيقة الوحيدة في الوجود. فالماديون يرون أن الإنسان فوق قيمه لأنه وضعها.
وتؤدي هذه الفلسفة إلى الارتباط بالأشياء والممتلكات المادية وتقديم قيمة الثروة المالية على غيرها.
في عالم الصيرورة المادية لا توجد قيم تتجاوز سطح المادة وكل شيء خاضع للقانون المادي.

2- الفردية.

الفردية تيار فلسفي وسياسي يضع حقوق الفرد ومصالحه وقيمه فوق حقوق الجماعة ومصالحها وقيمها وقد وصل بعض المتطرفين في النزعة الفردية على رفض جميع أنواع السلطة وخاصة الحكومية والدينية ورفعوا الشعار الذي صاغه جان غراف 1854 ـ 1939(Jean Grave) وهو: لا رب ولا سيد فلا يتبع أحد سوى إرادته« Ni Dieu, ni maître, chacun n’obéit qu’à sa propre volonté2 فالحرية الفردية هي المقدمة فوق جميع الاعتبارات3

3- البراغماتية.

تعتبر البراغماتية أهم المدارس الفلسفية التي نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر، وتتميز بالإصرار على النتائج والمنفعة كمكونات أساسية للحقيقة، كما ترفض مفهوم الحقيقة والعقلانية والأخلاق، وتعارض كل الأفكار التي ليست لها تطبيقات عملية وبصفة خاصة ما يتعلق بالغيبيات. فالحقيقة بالنسبة إليهم أمر نسبي.

هذه الفلسفات التي أشرنا إليها هي التي توجه حياة الغالبية العظمى من الشعوب الغربية، وهي كما نرى تتعارض بشكل كبير مع الرؤى والمبادئ الإسلامية ومع ذلك قد تغلغلت داخل الشعوب المسلمة وانتقلت عدواها إلى البلاد الإسلامية.
وأصبحت النظم التربوية في بلاد المسلمين تتبنى نظريات تربوية منبثقة من هذه الفلسفات مع ما تترتب على ذلك من آثار في سلوك النشء.
وليس من الغرابة إذن أن يواجه المسلمون نفس المشاكل والأزمات التي يواجهها الغرب. وسؤالنا الآن : ما هو المخرج من هذه الأزمة؟


III.كيفية الخروج من هذه الأزمة

قبل أن أبدي تصوري لهذا الموضوع أود أن أشير إلى أن هذه القضية ليست قضية سهلة فقد كانت موضع اهتمام و جهود المصلحين والمربين، وما نشاهدها في العالم الإسلامي من حركات ودعوات إصلاحية في القرون الأخيرة إنما هي استجابة للأزمة الروحية والخلقية، ويمكن أن نصنف هذه الحركات والدعوات إلى ثلاث اتجاهات أو مدارس كبرى :

المدرسة الصوفية: وهي تتجه نحو تزكية النفس وتربية الروح وتصفية القلب من الأمراض سعيا نحو الوصول إلى المعرفة بالله؛ وتوجد طرق صوفية عديدة في مناطق العالم المختلفة.
المدرسة السلفية: وهي تركز جهودها على جانب العقيدة ومحاربة ما تسميها البدع والمحدثات وتميل إلى التمسك بحرفية النصوص؛ ولا يهتم أصحاب هذه المدرسة بالسياسة ولا بالسلطة ومن روادها الشيخ محمد عبد الوهاب وتلاميذه. وقد تأثر بهذه المدرسة جماعات عدة منها حركة الفلاح في السنغال.
مدرسة الإصلاح السياسي: وتتميز بتركيز أصحابها على العملية السياسة باعتبار أن السلطة السياسية هي الأداة الوحيد لإصلاح الأوضاع وأن الحل يكمن في إيجاد حكومة إسلامية. ومن الرواد الأوائل لهذه المدرسة السيد جمال الدين الأفغاني(1839/1897) وتلاميذه محمد عبده ورشيد رضا. وقد تأثرت بهذه المدرسة جماعة إخوان المسلمين والأحزاب السياسية الإسلامية التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية. (وربما جماعة عباد الرحمن في السنغال)

وكل واحدة من هذه للمدارس الإصلاحية حاولت أن تستجيب للأزمات التي تعرض لها المسلمون وقدمت طبقا لقراءتها للإسلام طرقا للخروج من الأزمة التي تعيشها البشرية وهي تتكامل فيما بينها ولها قاسم مشترك وإن ركزت كل واحدة منها على جانب معين من جوانب الحياة ـ دون إغفال الجوانب الأخرى ـ حسب سياقاتها التاريخية، فمرجعها واحد وهو القران الكريم والسنة النبوية الشريفة .

وبعد هذه الإشارة نقو ل بأن هناك ثلاثة مبادئ لا بد منها للخروج من الأزمة الروحية والخلقية

المبدأ الأول: الإيمان بالله تعالى وتوحيده
الإيمان بوجود خالق يأمر وينهى ويشرع لخلقه وتوحيده بالعبودية هو الذي يعصم الإنسان من الانزلاق والتحول إلى عبادة المادة وينجيه من الأزمة الروحية، لأن العالم المعاصر وفلسفاته لا تجيب على الإشكاليات الكونية مثل الميلاد والموت والسعادة والهدف من الوجود، يقول تعالى: « ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»
فالإيمان مصدر النجاة في الدنيا والآخرة ومصدر الشعور بالأمن يقول تعالى: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون»
ولذا يقول الشيخ الخديم
أول واجب على المريد تحصيل زاده من التوحيد

المبدأ الثاني: العمل الصالح

فالإيمان لا يصدق بدون العمل بمقتضاه « فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل » ولذا يربط القرآن الإيمان بالعمل الصالح يقول تعالى: « والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر»
والعمل الصالح لا ينحصر في الشعائر كما يفهم البعض ولكنه يشمل صالحات الدنيا عمارة الدنيا يقول تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها
فالإسلام يجمع بين الروح والمادة بين الدنيا والآخرة بين تكنولوجيا والأخلاق.
والصلاح يترتب عليه الإصلاح يقول الشيخ الخديم في دعائه
ولتدخل المصلح في يدي وفي داري وثبتنه بالهادي الوفي

المبدأ الثالث: تزكية النفس4

فلا ينجو الإتيان بدون تزكية نفسه، ففلاح الإنسان مرهون بعملية التزكية هذه، فقد أقسم الله تعالى عدة مرات على أنه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
وكانت من أسس مهام النبوة يقول تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم. ويقول عليه السلام إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
وتزكية النفس تعني تخليتها من الرذائل مثل حب الدنيا والكبر والحقد والحسد ونحوها وتحليتها بالفضائل كالتواضع نية الخير والسماحة وغيرها من الأخلاق الإسلامية.
فالتحلي بالأخلاق من دلائل صدق الإيمان ففي الحديث : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وفيه أيضا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، فليكرم ضيفه، فليصل رحمه، فليقل خيرا أو ليصمت الخ

الخاتمة

إننا في هذا العرض حاولنا تقديم صورة عن الأزمة الروحية والخلقية في العالم وإبراز الخلفية الفلسفية لها ثم بينا شروطا ثلاثة لابد منها لمواجهة الأزمة: الإيمان والعمل الصالح وتزكية النفس ولم نتعمق في التفاصيل أو نتوسع في التعاليم الإسلامية، ونرجو أن تأتي المساهمات والمناقشات بمزيد من التوجيهات وان تلقي الضوء على بعض الجوانب الهامة التي لم نصل إليها أثناء العرض.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

داكار 06/02/2006








الخميس، 18 سبتمبر 2008

واقعنا الاجتماعي وضرورة تجديد أصول الفقه

بقلم
الحاج موسى فال
باحث وأستاذ في كلية الدعوة الإسلامية
ببيرPir

المقدمة :
إن الدين توحيد بين البعد الأزلي الروحي والواقع الظرفي المادي، وهكذا كان النموذج الشرعي الأول نمطاً مثالياً أوجد واقعاً معيناً في عهد التنزيل من قيم الحق والعدل الخالدة وهيأ بذلك منهج العبادة الأمثل لله، ومع مرور الزمن وتعاقب الأجيال ، تتبدل الظروف النفسية والثقافية والاجتماعية والمادية التي كانت قاعدة للنموذج الأول فيقتضي ذلك نظراً وعملاً متجددا لبناء نموذج جديد في مغزاه الديني ، وهكذا كان علماء هذه الأمة على اجتهاد مستمر لتحقيق ذلك الهدف الرباني الأصيل ، ألا وهو تضييق الشقة بين النص الإلهي المثالي والواقع البشري المتقلب، ويسميه الدكتور حسن الترابي بالتدين .
ومن تلك الاجتهادات نشاة علم أصول الفقه . إن الدراسة لتاريخ هذا العلم تبين أنه مر بمراحل تاريخية مختلفة، عالج في كل مرحلة منها إشكاليات وأبعاداً جديدة اختلفت عن تلك التي عالجها في المرحلة السابقة لها، وذلك بغية تحقيق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية والواقعية التي واجهته في كل مرحلة... فإذا اعتبرنا الإمام الشافعي المحطة الأولى، نجد أن جهده في كتابه " الرسالة " تمثل في ضبط مسيرة الاجتهاد بجمع أشتات مناهج الاستنباط التي كانت في عصره، وعرضها في صورة منظمة، وجعلها علماً متناسق الأجزاء، إلا أن تدوين الإمام الشافعي لعلم أصـول الفقه لا يعنى اكتمال هـذا العلم بحيث لم يُبق مجالاً لمن بعده، بل إن الفكر الأصـولي شهـد بعد الإمام الشافعي تطوراً في الشكل والمضمون، بسبب تـنوع مدارك وتخصصات العلماء الذين بحثوا في هذا العلم – محـدثون، ولغويـون، وعلماء كلام، وغيرهم- وكذلك بسبب دخول فن التصنيف، والترتيب على كل العلوم، بما فيها علم أصول الفقه.
ولعل أهم محطة في التجديد الأصولي بعد الإمام الشافعي هو الإمام الرازي الجصاص (م370هـ) فـي كتابه "الفصول فـي الأصول" ، الذي تضمن إضافات على مستوى المضمون والشكل. فعلى مستوى المضمون أكمل المباحث اللغوية، ومدلولات الألفاظ، والموضوعات المشتركة بين الكتاب والسنة، والمباحث التي تستقل بها السنة عن الكتاب، كما طور البحث في دليل الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبحث الاجتهاد..
كما مثل كتاب " المستصفى " لأبى حامد الغزالي (م 505هـ) محطة مهمة في تجديد علم أصول الفقه، إذ تضمن إضافة نوعية على مستوى المضمون تمثلت في مقدمة في مدارك العقول، وقد تبنى الأصوليون بعد الإمام الغزالي هذه الهيكلة، الأمر الذي جعل كتاب "المستصفى" نقطة الاستقرار لكل من المضمون والشكل في مجال أصول الفقه إلى غاية القرن الثامن الهجري، حيث مثل كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي نقلة نوعية في علم أصول الفقه.
هكذا حتى وصلنا إلى محطة المعاصرين، لا شك أن أهم إشكالية أثارتها قضية تجديد الفقه الإسلامي اليوم هي تجديد علم أصول الفقه، لأن المعاني لابد أن تنزل على الواقع، ولابد من النظر إلى المتغيرات والابتلاءات، فتنزل المبادئ والأصول عليها، وتتسع لاستيعابها بمرور الزمان والمكان. لقد تنزل القرآن داخل الحياة عبر تفاعلات وابتلاءات تواصلت لبضع وعشرين سنة، بغية تشكيل النموذج، وهو نموذج مرن يستوعب بما يستجد من متغيرات في الواقع.
وإذا جاءت رمضانياتكم المباركة كعادتها طارحة هذه القضية ، فإننا لا نملك إلا مباركتها والمناشدة بها داعيا للقائمين عليها والمبادرين إليها أن يجهلها الله في ميزان حسناتهم يوم القيامة ، كما نتشرف بتقديم هذا البحث المتواضع للمساهمة في هذا العمل الإسلامي الجليل.

1- وقفة مع المصطلحات

ا - مفهوم علم الاجتماع
يعتبر علم الاجتماع من علوم الإنسانية ، وليس من العلوم التجريبية ، وهو علم يعنى بالجماعات البشرية والتفاعلات المختلفة والعلاقات بين أفراد هذه الجماعات. يعتبر أوغست كونت من أهم الباحثين في علم الاجتماع ، بل يعتبر المؤسس الغربي له إلا أن الكثير من العرب يعتبرون عبد الرحمن بن خلدون بملاحظاته الذكية في طبائع العمران البشري التي دونها في مقدمته الشهيرة المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع.
علم الاجتماع هو إذن دراسة الحياة الاجتماعية للبشرِ، وهو توجه أكاديمي جديد ً تطور في أوائل القرن التاسع عشرِ ويهتم بالقواعد والعمليات الاجتماعية التي تربط وتفصل بين الناس ليس فقط كأفراد، لكن كأعضاء جمعيات ومجموعات ومؤسسات. علم الاجتماع يهتم بسلوكنا ككائنات اجتماعية؛
يعمل أكثر علماء الاجتماع في عدة اختصاصات، مثل التنظيم الاجتماعيِ، التقسيم الطبقي الاجتماعي، ؛ العلاقات العرقية ؛ التعليم؛ العائلة؛ عِلْم النفس الاجتماعي؛ عِلْم الاجتماع المقارن ؛ عِلْم الاجتماع الديني أدوار وعلاقات جنسِ؛ علم السكان؛ علم الشيخوخة؛ علم الإجرام؛ والممارسات الاجتماعية.
علم الاجتماع توجه أكاديمي جديد نسبيا بين علومِ الاجتماعيات الأخرى بما فيها الاقتصادِ، عِلْم السياسة، عِلْم الإنسان، التاريخ، وعلم النفْس.
ظهر علم الاجتماع كما هو حاليا كصياغة علمية في أوائِل القرن التاسع عشرِ كرَدّ أكاديمي على تحدي الحداثةِ: فالعالم كَانَ يتحول إلى كل متكامل ومترابط أكثر فأكثر، في حين أصبحت حياة الأفراد أكثر فردية وانعزالا.
تمنى علماء الاجتماع أَنْ يَفْهموا التحولات التي طرأت على المجموعاتَ الاجتماعيةَ، متطلعين لتَطوير دواءَ للتفككِ الاجتماعيِ.
ب - فروع العلوم الاجتماعية العامة :
علم الانسان اقتصاد تعليم تاريخ لسانيات جغرافيا إدارة سياسة علم النفس علم الاجتماع قانون
ج - الحقائق الاجتماعية
هي مجموعة التغيرات والتفاعلات التي تؤدى إلى ظهور نمط متكرر ومستقر من السلوك يضع المجتمع في حالة تغيير مستمر وهى تشير إلى حالة حركة وتدافع وانتقال المجتمع من حالة إلى حالة اجتماعية جديدة)
وتكون هذه الحقائق نتيجة عمليات اجتماعية، مثل :
1.عمليات تتصل بالتفاعل بين الأفراد أى التجاذب والتنافر بين الأفراد
2.عمليا ت مجتمعية عامة وهى العمليات الكبرى التي تنقل المجتمع من حالة إلى أخرى مثل تحول المجتمع الريفي إلى حضر أو المجتمع الزراعي إلى صناعي
3.عمليات تتصل بنقل الثقافة مثل التنشئة الاجتماعية عبر الأسرة والمؤسسات التعليمية
تساعد نتائج البحث الاجتماعيِ قادة المجتمع من أكاديميين ،و خبراء التربية، ومشرّعين، ومدراء، وسياسيين وغيرهم ممن يهتمون ّ بفهم وحَل المشكلات الاجتماعية وصياغة سياسات عامة مناسبة للسكان .

2- معنى أصول الفقه

يقول الشيخ عبد اللّه دراز:
(تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة: مثل " لا ضرر ولا ضرار " الحديث، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أَخْرَى) (فاطر: 18). (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج: 78).، "إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وهكذا. وهذه تسمى أدلة أيضًا كالكتاب والسنة والإجماع. .
وتطلق أيضًا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية العملية منها، وهذه القوانين هي من الأصول. فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية.
فالقاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررًا في النهاية أن ما كان ظنيًا يطرح من الأصول.
والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، ولذلك يرى العلماء أن القطعية هي من الأدلة الأربعة الأساسية ، أو المصادر الرئيسية : الكتاب والسنة و الإجماع و و القياس. وأما الظنية فتتمثل في الأدلة أو المصادر الفرعية ، وهي كثيرة جدا منها : المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وسد الذرائع وغيرها. ومن جهة أخرى تعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى نشأة وتنوع المذاهب الفقهية.
يقول د يوسف حامد العام : " الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور العلماء هي الكتاب والسنة و الإجماع والقياس ، وهناك أدلة أخرى ملحقة بهذه الأربعة ، ولكنها لم تحظ باتفاق الأئمة المعتبرين . . . وقد ذكر منها القرافي في كتابه تنقيح الفصول تسعة عشر دليلا "

1-الأدلة الأربعة الأساسية :
يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله إن أكثر أصول الفقه مجموعة في آية واحدة وهي قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا1 النساء / 59

القرآن الكريم :

وهو أول الأدلة الشرعية ، وقد اهتم به الأصوليون وعرفوه على أنه كلام الله المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، معجزة ألفاظه ، متعبد بتلاوته ومنقول إلينا بالتواتر2 .

السنة :
والسنة عند الفقهاء هي تطلق على ما يقابل الفرض ، وهذا عند الشافعية والمالكية والحنابلة ، وأما الحنفية فهي ما قابل الفرض والواجب 3.
وفي اصطلاح الأصوليين هي : أقوال الرسول )ص) وأفعال وتقريره .
ومثال القول : كقوله : إنما الأعمال بالنيات . . .
ومثال الفعل : ما نقله الصحابة عنه في شؤون العبادة مثل أءاد الصلوات ، مناسك الحج ، آداب الصيام . . .
مثال التقرير : مثل ما صدر عن بعض الصحابة ولم ينكره عليهم ، بل سكت عنه مع استحسان مثل ما حدث في غزوة بني قريظة عندما قال لهم : ) لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة . . . ) فصلى البعض ، وامتنع البعض فأخر إلى ما بعض المغرب ، وبلغ النبي )ص) ما فعل الفريقان ولم ينكر عليهما.
ومثال ذلك أيضا : عند ما آكل خالد بن الوليد الضب الذي قدم إلى الرسول )ص) ولم يأكل هو . فسئل هل هو حرام أكله ؟ فقال لا ولكن ليس في أرض قومي فأجدني أعافه 4
وأما حجية السنة في التشريع الإسلامي فتظهر في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : ) وما ينطق عن الهوى . . . ) .

الإجماع :
يعرف الأصوليون الإجماع على أنه :" اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة على أمر من الأمور" 5 .
ومعنى الاتفاق هو الاشتراك في القول أو في الفعل او في الاعتقاد . والمقصود بأهل الحل والعقد هم المجتهدون في الأحكام .
و تتجلى حجية الإجماع في النصوص التالية : يقول القرآن الكريم : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس "6 ، ويقول أيضا : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوليه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " 7

وأما النصوص السنية فيقول الرسول )ص) : " لا تجتمع أمتي على الضلالة " 8
القياس :
وهو إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص في الحكم الشرعي المنصوص عليه لاشتراكهما في علة هذا الحكم . وله أربعة أركان : المقيس عليه والمقيس والحكم الشرعي والعلة .
وأما حجيته فتوجد في هذه الآية : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " لأنه رد الفرع الذي لا نص له إلى الفرع الذي فيه نص ، والنص إما كتاب أو سنة9
تلك هي الأدلة الشرعية الأربعة ، فهناك أدلة فرعية أخرى وهي كثيرة ، وأشهرها عند المالكية هي : المصلحة المرسلة، والاستحسان، والعرف، ، والاستصحاب ، وسد الذرائع ، وعمل أهل المدينة .
والمهم من هذا العرض البسيط لمصارد أصول الفقه الإسلامي هو قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب الأفعال والأحداث زمانا ومكانا.


٢ تجديد أصول الفقه بين المؤيدين والمعارضين

إن التجديد في علم أصول الفقه، والسعي إلى توضيح هذه الأصول والاجتهاد فيها بما يتفق مع تطورات العصر الحديث قد أصبح من ضروريات هذا الزمن.
وقد دعا بعض علماء المسلمين إلى إعادة النظر في تصنيف الأصول التي يتم على أساسها استنباط الأحكام الفقهية استنادا إلى أنها ظنية، وليست قطعية لأنها من الاجتهاد البشري . في الوقت الذي يرى آخرون بأن الأصول لا يمكن أن تكون إلا قطيعة لكونها مصدر التحكم عند الخلاف.
من الفريق الأول : الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ، والدكتور الترابي ، الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم حيث أكد أنه "لا بد من القيام باجتهاد جديد لعلم أصول الفقه، خاصة أن علم الأصول الموجود بين أيدينا اليوم يتناول قضايا فرعية لا تتحقق منها الفائدة المرجوة".
وألمح إلى أن " تدريس أصول الفقه في الجامعات لا يجب أن تكون الغاية منه مجرد تدريس مادة يمتحن فيها الطلاب، بقدر ما تكون نقطة بداية لتكوين ملكة عقلية اجتهادية.. يستطيع بها صاحبها أن يكون مجتهدا مجددا، كي يتم إثبات صلاحية الشريعة الإسلامية لكل مكان وزمان".10
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
يدور السؤال حول كلمتين أساسيتين هما: التجديد.... وأصول الفقه.
أما كلمة "التجديد" فقد اقترنت بها ملابسات تاريخية جعلت كثيرًا من المتدينين الملتزمين يتخوفون من إطلاقها.
والتجديد الحقيقي مشروع بل مطلوب في كل شيء: في الماديات، والمعنويات، في الدنيا والدين، حتى إن الإيمان ليحتاج إلى تجديد، والدين يحتاج إلى تجديد.
وفى الحديث الذي رواه عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " 11 وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (صححه العراقي وغيره، وذكره في صحيح الجامع الصغير) المهم هو تحديد مفهوم التجديد ومداه
وإذا كان الشارع قد أذن " بتجديد الدين " نفسه، وعرف تاريخ المسلمين فئة من الأعلام أطلق عليهم اسم « المجددين » من أمثال الإمام الشافعي والإمام الغزالي، وغيرهما. . . فلا حرج علينا إذن من " تجديد أصول الفقه "
وما هو " أصول الفقه "؟
إنه العلم الذي وضعه المسلمون ليضبطوا به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وبعبارة أخرى: العلم الذي يضع القواعد الضابطة للاستدلال فيما فيه نص، وفيما لا نص فيه.
وإذا كان " علم أصول الفقه " قد وضعه المسلمون بالأمس ووسعوه وطوروه ابتداء من " رسالة " الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) إلى " إرشاد الفحول " للإمام لشوكاني (ت: 255 هـ) إلى مؤلفات المعاصرين. . . فلا عجب أن يقبل التجديد اليوم. المسلمون هم الذين أسسوه، وهم الذين يجددونه.

كل العلوم الإسلامية قابلة للتجديد. الفقه وأصوله، والتفسير، وعلم الكلام، والتصوف، بل الواجب على الأمة متضامنة أن تعمل على تجديد هذه العلوم كلها.
وما دامت علوم الفقه والتفسير والكلام والتصوف قابلة للتجديد، بل محتاجة إليه، فلماذا لا يدخل " علم أصول الفقه " ضمن هذه المنظومة؟
وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: قال في إحدى رسائله: (فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفرعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- وجماهير أئمة الإسلام.
وإذا كان بعض مسائل الاعتقاد قابلاً لأن يدخل دائرة الاجتهاد، فأولى منه بالدخول بعض مسائل "أصول الفقه "، على الرغم مما شاع لدى كثير من الدارسين أن أصول الفقه قطعية، وأن الأصول إذا لم تكن قطعية ودخلها الاجتهاد كغيرها، لم يعد لنا معيار نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع ! 12
يقول الإمام الشوكاني في " تحقيق الحق " فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه اللّه المؤهلات لِوُلُوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل".
الأمر الذي يجب تأكيده بقوة هو أن ما ثبت بدليل قطعي لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه. فإن هذه " القطعيات " هي عماد الوحدة الاعتقادية والفكرية والعملية للأمة. وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطرب. ولا يجوز لنا التساهل مع قوم من الأدعياء، يريدون أن يحولوا القطعيات إلى محتملات، والمحكمات إلى متشابهات، ويجعلوا الدين كله عجينة لينة في أيديهم يشكلونها كيف شاءت لهم أهواؤهم، ووسوست إليهم شياطينهم.
ولقد بلغ التلاعب بهؤلاء إلى حد أنهم اجترءوا على الأحكام الثابتة بصريح القرآن، مثل توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، فهم يريدون أن " يجتهدوا " في التسوية بين الذكر والأنثى! بدعوى أن التفاوت كان في زمن لم تكن المرأة فيه تعمل مثل الرجل! وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن المرأة وإن عملت وخرجت من مملكتها وزاحمت الرجال بالمناكب تظل في كفالة الرجل ونفقته: ابنة وأختًا وزوجة وأمًا، غنية كانت أو فقيرة، وأن أعباءها المالية دون أعبائه، فهو يتزوج فيدفع مهرًا، ويتحمل نفقة، وهي تتزوج فتأخذ مهرًا، وينفق عليها، ولو كانت من ذوات الثراء.
وبلغ التلاعب ببعضهم أن قالوا: إن الخنازير التي حرمها القرآن وجعل لحمها رجسًا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتربى تحت إشراف لم تنله الخنازير القديمة.
وأن الصوم يعوق التقدم والتنمية.
وهكذا يريد هؤلاء لشرع اللّه أن يتبع أهواء الناس، لا أن تخضع أهواء الناس لشرع اللّه (وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَوَاتُ وَالأرْض وَمَن فِيهِنَّ)13.

٣ واقع العالم الإسلامي من منظور علم الاجتماع

يقول الدكتور محمد عبد اللطيف البنا المحررالمسئول عن النطاق الشرعي بشبكة إسلام أون لاين إن "القضايا الفقهية قديما كانت بسيطة تفرزها الحياة البسيطة، وحلها لم يكن يستغرق الكثير من الجهد والوقت، أما في العصر الحديث فقد وجدت كثير من القضايا المتشابكة، والمتشعبة، والمتداخلة بين أكثر من علم تحتاج لحلول فقهية خاصة".
مضيفا أنه "نظرا لأن التطور في عصرنا صار أكبر من أن يحصى، وأن الفقهاء عليهم أن يبينوا آراءهم في المستجدات، ولأن الأمور كذلك أصبحت متشابكة ومعقدة أحيانا... فكان لا بد من وضع الضوابط التي تحكم سير الفقيه في الحكم على النازلة، حتى يمكن من خلال هذه الضوابط أن نقلل نسبة الخطأ وأن نصل بالنازلة لحكمها الفقهي السليم".
ويمكن القول إذن أن المجتمع الإسلامي اليوم من منظور اجتماعي يتميز بتغيرات سريعة وواسعة النطاق ، شملت جميع مجالات الحياة ، وذلك نتيجة ضغط الحداثة والعصرنة والعولمة الطاغية على جميع بقاع العالم ، وهي تمثل النموذج الغربي للحياة التي افرزها عاملان تاريخيان خطيران ، وهما : النهضة الأوروبية والثورة الصناعية.
وأما أهم مميزات المجتمع الإسلامي اليوم والتي تحتم على الأمة إعادة النظر في أصول الفقه فيمكن إجمالها في الاتي :
في الجانب الاجتماعي : اغتصاب بعد النساء المؤمنات أثر الحروب مثل ما حدث في حرب البوسنك والهرسك ، وقضية إجهاض؟ .
في الجانب الاقتصادي : كيفية حل الاختلافات حول التعامل مع البنوك الربوية ؟ والموقف الشرعي من الفوائد المصرفية ؟
في الجانب الديني : مشكلة الردة ؟
في الجانب العلمي : كيفية التعامل مع الاكتشافات العلمية مثل : استنساخ الأجنة؟
في الجانب السياسي : كيفية التوفيق بين ضرورة طلب الحكم والالتزام بتعليمات الرسول الناهية عن طلب الولاية ؟
كيفية التعامل مع الأقليات المسلمة في الغرب ، هل الغرب دار الحرب أم دار السلم ؟
كل هذه الأمور المستجدة في العالم الإسلامي تدعو إلى ضرورة تجديد أصول الفقه التي نعتمد عليها لإصدار الفتاوى التي تساعد المسلمين على تحقيق عبادة الله في الأرض ، وهي سبب وجود الإنسان على سطح المعمورة ،" وما خلقت الجنة والإنس إلا ليعبدوني"

٤ التجديد الذي ننشده
إن التجديد الذي ننشده ينبغي أن ينطلق من منهج دقيق تتضح من معالمه عدم إغفال الواقع، والوقوف على حقيقة الأمر المستجد، والتكييف الفقهي الصحيح له، والتمهل قبل إبداء الرأي الفقهي المناسب، والتفريق بين فتاوى الأمة، وفتاوى الأفراد، مع ضرورة أن يكون ذلك كله مستلهما من مقاصد الشريعة الإسلامية.
إن التجديد الإسلامي الأصيل الذي ندعو إليه يرفض التقوقع والانكماش - يقوم على أسس ، فقوامها ما يأتي :

1 - عدم الخلط بين منابع الدين الإسلامي "الشريعة"، وبين "الفقه الإسلامي"؛ لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، صلاح السنن التي تحكم هذا الكون وتسيره، أما الفقه فهو كسب بشري. يتغير زمانا ومكانا ، جماعة وأفرادا.

2 - التمسك بالأصول الشرعية والأحكام القطعية وعدم تجاوزها؛ لأنها تضمن للفقه الإسلامي أصالته، وللفكر انتظامه من جهة، ولأنها من جهة أخرى تمثل جانب "الوحي" الذي يرشد العقل ويوجه التفكير ويقوم مساره.

3 - الاسترشاد بمنهج علم الحديث في التعامل مع "السنة" قبولا ورفضا، والاعتماد على مناهج أصول الفقه، في التعامل مع النص فهما واستنباطا.
4 - اجتناب ذلك النوع من الاستلاب الثقافي والعقدي للأمة من خلال ظاهرة التقليد الأعمى للمناهج الغربية، ومنها الدعوة لتعدد قراءة النص الشرعي، بهدف تحنيط تلك النصوص، أو جعلها تاريخا، ونزع القداسة عنها، وإلغاء العمل بها و رفض الدعوة إلى إعادة تفسير التراث طبقا للواقع، لأن الهدف من ذلك هو تجاوز ما لا يتفق من الدين مع الواقع بما يهدم الدين.
أن من مخاطر الدعوة لتعدد قراءة النص الشرعي جعل الدين عرضة للتجديد المستمر حتى ينتهي تماما، وإزالة قدسية القرآن الكريم من النفوس وجعله كأي كتاب أدبي، وإعطاء الحق لفهم القرآن حسب قراءة كل فرد له، وجعل الواقع حاكما للشرع.

ومن أهم مميزات التجديد المنشود م يلي :

  • عدم تجزئة الفقه الإسلامي إلى أقسام منفصلة بعضها عن بعض : فقه العبادات ـ فقه المعاملات ـ. . . بل ضرورة اعتماد المقاربة المنظومية.
  • ضرورة إدخال علوم أخرى في الدراسات الفقهية مثل علم الأخلاق و القانون الدستوري.
  • إدخال حاجيات أخرى في مقاصد الشريعة العامة – حفظ الدين . . .- قضية حقوق الإنسان.
  • إعادة ترتيب المقاصد : مقاصد الفرد ، مقاصد المجتمع ، مقاصد الدولة.
  • تجريد الأصول من علم الكلام والمنطق .
  • اعتماد الاجتهاد الجماعي أي إشراك تخصصات متنوعة عند إصدار الفتوى .
  • إعادة النظر في مناهج الدراسة قي الكليات الشرعية.
  • تجريد الأصول من القواعد التي لا تنبني عليها الفروع العملية.


والله ولي التوفيق

الخميس، 7 أغسطس 2008

الدعوات الإصلاحية ومسئولية الشباب❊

بقلم/ سام بوسو عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه،

تمهيد،
إن الإسلام رسالة عالمية غير مقيدة بزمان ولا مكان، وذات مصدر إلهي واحد؛ لكن العقل البشري المفكر الذي يتعامل معها، قراءةً وفهمًا واجتهاداً، لا يسلم من التأثر بالبيئات والظروف الزمنية والمكانية. ولذا شهد العالم الإسلامي تيارات فكرية متنوعة نتيجة الاختلاف الطبيعي في رؤى واجتهادات الدعاة والمفكرين والمصلحين.
والشباب في كل المجتمعات يشكلون الهدف الرئيس للاستقطاب من قبل الدعوات والتيارات الفكرية، ومن هنا يكون موقفهم دائما حاسما ومسئوليتهم جسيمة.
وفي هذا العرض حول "الشباب المسلمة والدعوات الإصلاحية التي تمثل التيارات الفكرية الإسلامية" سنتناول بإيجاز النقاط التالية :

  1. لمحة تاريخية عن الدعوة الإصلاحية في العالم الإسلامي.
  2. نماذج مختارة من بين الدعاة المؤخرين المشهورين:
    • الشيخ محمد عبد الوهاب
    • السيد جمال الدين الأفغاني
    • الشيخ أحمد بمب رضي الله عنه
3. مسئولية الشباب أمام الدعوات الراهنة.

1
) نبذة عن الدعوة الإصلاحية في العالم الإسلامي

انطلاقا من الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي مفاده: أن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد دينه، فقد كانت فكرة الإصلاح والتجديد تسكن هاجس المسلمين، منذ فجر الإسلام إلى الوقت الحاضر؛ ولم يخلُ عصر من العصور من دعاة ومصلحين، بين مدع في ذلك ومخلص.

وكانت تلك الدعوات في أغلب الأحيان استجابة لظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وقد تولدت من هذه الدعوات حركات جديدة تحولت، نتيجة التطورات، إلى فرق ومذاهب وطرق، منها:
  • الفرق السياسية كالشيعة والخوارج وأهل السنة،
  • المذاهب الكلامية كالمعتزلة والماتريدية والأشعرية والوهابية،
  • الطرق الصوفية أمثال القادرية والشاذلية والتيجانية والمريدية
وفي غالب الأحيان، لم تأت دعوة من تلك الدعوات من فراغ، أو من تلقاء نفسها، بل تأتي مرتبطة بسياق تاريخي ما1. فقضية الخلافة الإسلامية والحكم، على سبيل المثال، كانت لها دور كبير في ولادة الفرق السياسية والكلامية، كما أن الظروف الاجتماعية كانت لها تأثير جوهري في تشكل الطرق الصوفية.
وأما في القرنين الأخيرين كان العامل الأكبر في ارتفاع الدعوات الإصلاحية يتمثل من جهة، في صدمة المواجهة مع الغرب، وهي مواجهة كشفت عن ضعف المسلمين وعجزهم وتخلفهم ماديا، ومن جهة أخرى، في تفاقم التدهور في الأخلاق والفساد في العقائد؛ وقد أصبح تدارك الوضع وإيجاد الحلول ضرورة ملحة في نظر الكثير من المسلمين، وانطلقت من جراء ذلك دعوات وحركات إصلاحية عديدة في أقطار مختلفة من العالم الإسلامي.
وسنختار ثلاثة نماذج من بين أشهر الدعاة في الأقطار الإسلامية، يمثل كل واحد منها تيارا، أو بعدا أو نمطا إصلاحيا متميزا.

2
) نماذج مختارة من بين الدعاة الإصلاحيين

إن أحوال العالم الإسلامي في القرون الأخيرة، كما أسلفنا، كانت في غاية السوء والتدهور، تحت الحكم العثماني2، وقد كشف عن ذلك الوضع المتردي احتكاكُ المسلمين بالعالم الغربي الذي تفوق على العالم الإسلامي في مناحي كثيرة.
وعلى الجملة، كان هذا العالم الرسلامي – على حد تعبير أحمد أمين –″ شيخا هرما حطمته الحوادث ونهكه ما أصابه من الكوارث: فساد نظام، استبداد حكام، وفوضى أحكام وخمود عام واستسلام للقضاء والقدر3″
وقد أرجع الشيخ محمد عبده هذا التدهور إلى السياسة، حيث يقول: ″هذه السياسة سياسة الظلمة (...) هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه (...) فجل ما تراه الآن مما نسميه بالإسلام فهو ليس بإسلام″
وأما الشيخ محمد الغزالي فقد أرجع، بشكل إجمالي، عامل انكسار المسلمين إلى التفريط في العمل بمقتضى رسالتهم فقال :″إن الأمة الإسلامية صاحبة رسالة وحاملة دعوة ووريثة وحي، يجب أن تبلغه بالعلم وأن تظهره بالعمل، بيد أنها نسيت ذلك أو تناسته وضعف أخذها ووفاؤها له على اختلاف الليل والنهار″4

ونرى أن محاولات الإصلاح قد تعددت في واقع الأمر، و تنوعت مشارب الدعاة وتوجهاتهم: فمنهم من رأى أن الحل يكمن في إصلاح العقيدة، ومنهم من رآه في إصلاح السياسة والحكام وتطبيق الشريعة، ومنهم من ركز على ضرورة تزكية النفوس وتطهير القلوب. ونختار هنا نماذج ثلاثة يمثلون، نوعا ما، هذه التيارات على التوالي، وهم: الشيخ محمد عبد الوهاب والسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ أحمد بمب (رحمهم الله)

1
- الشيخ محمد عبد الوهاب ( 1703-1791)

نشأ الشيخ محمد عبد الوهاب، في منطقة نجد ( بالمملكة العربية السعودية حاليا) وتعلم بها دروسه الأولي في وسط هيمنت فيه المدرسةُ الحنبلية، وكان الشيخ متأثرا بأفكار شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية في نقده اللاذع للفرق التي سماها بالمبتدعة، و لكثير من الممارسات التي كانت سائدة في عصره، ورآها مخالفة للعقيدة الصحيحة، وقد ذهب بالموقف الذي ورثه من الحنبلية، في مناهضة الشيعة والخوارج والمعتزلة، إلى درجة أبعد، ليشمل رفض التصوف جملة، ورفض فرق كلامية، كانت تعتبر أصلا في حظيرة أهل السنة والجماعة كالأشعرية والماتريدية ومحاولة إخراجها من دائرة السنة.

دعوته:
قام الشيخ برحلات، وطاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، (مثل سوريا والعراق وإيران) ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس لمدة ثمانية أشهر ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة التي كانت ترتكز على مسألة التوحيد، وهو الاعتقاد:
بأن الله وحده هو خالق هذا العالم والمسيطر عليه وبيده النفع والضر،
وبأنه هو المشرع للعقائد والمحلل والمحرم.

إستراتجيته:
إلى جانب الإستراتجية المتمثلة في الوعظ وكتابة الرسائل، فقد ساعد على انتشار الدعوة، تحالف الشيخ مع أمراء آل سعود في الدرعية، وخاصة مع ميلاد المملكة السعودية، حيث أصبح النظام الاجتماعي والسياسي فيها، يخضع لأفكار الشيخ محمد عبد الوهاب، ولم تدخر السلطة الحاكمة جهدا في سبيل نشرها.

ويرى بعض الدارسين5 أن الوهابيين لم يمسوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتها، ولذلك كان رجال الدين في نجد متشددين أمام كل جديد فكانوا يرون أن التلغراف السلكي واللاسلكي(...) من البدع6.
آثار دعوته:
ومهما يكن من أمر فإن لهذه الدعوة أصداء واسعة في البلدان الإسلامية بتسميات مختلفة كالسلفية والسنية.

2
-السيد جمال الدين الأفغاني (1839 - 1897)

كان السيد جمال الدين الأفغاني، وزيرا في إمارة من إمارات أفغانستان ثم رحل إلى الهند إثر سقوط هذه الإمارة سنة 1869م. تعلم الفارسية والعربية وكان بارعا في الفلسفة الإسلامية، و كان إنسانا حركيا.
وقد طوف في فارس والهند والحجاز وتركيا، وأقام في مصر من مارس سنة 1871 إلى سنة 1879م، وأثر فيها تأثيرا كبيرا. وعلى يد تلاميذه في مصر – وفي مقدمتهم محمد عبده – انطلقت دعوته الإصلاحية. وفي سنة 1884م أنشأ في باريس، هو وتلميذه محمد عبده، جريدة "العروة الوثقى" لنشر أفكارهما.
دعوته:
كان الأفغاني يرمي إلى الإصلاح السياسي عن طريق إصلاح العقول والنفوس كشرط ضروري لإنقاذ المسلمين من التخلف.
وتركزت دعوته على تحقيق الوحدة بين المسلمين وإيجاد حكومة إسلامية واحدة تلتزم بالتعاليم الإسلامية.

إستراتجيته:
وتمثلت إستراتجيته في الخطابة وإلقاء المحاضرات وكتابة المقالات ونشر الجرائد والاتصالات الشخصية.

آثار دعوته:
وقد كانت لدعوته الإصلاحية آثار واسعة وقوية في الثورات العربية والفارسية والحركات المناهضة للاحتلال الأجنبي، وفي ما يسمى بالإسلام السياسي.

3
-الشيخ أحمد بمب - ض- (1853 – 1927)

رأينا أن محمد بن عبد الوهاب ركز دعوته على إصلاح العقيدة، بينما كان الأفغاني يروم إصلاح الحكم والنظام السياسي في المقام الأول، وإن اتخذ في سبيل ذلك وسائل مختلفة كإصلاح النظام التربوي.

أما الشيخ الخديم رضي الله عنه، الذي ولد في منطقة باوول في وسط السنغال، وتعرف دعوته الإصلاحية بالمريدية، فقد عاش في عصر اتسم بالضعف العقدي والتدهور الخلقي لدى الأفراد، وبالاضطراب في الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد أرجع الشيخ هذا التردي في الأوضاع إلى بعد الناس عن المنهج النبوي الشريف بسبب الجهل وفساد النفوس وغلبة الأهواء.
هذا وإنما عليه المقتفي لكثرة الجهل على الناس اختفى7

دعوته:
وقد تصدى لمهمة تجديد الدين وإحياء السنة النبوية
دينٌ سوى إسلاِمه لاُ يحمد عنـد الإله و به نجـدد
للمصطفى نويت ما يجدد سنته الغرآ وإني أحمد

وقد ركز في دعوته على إصلاح العقائد بالتوحيد و تصحيح العبادات بالفقه وتطهير القلوب بالتصوف، بشكل يتسم بالتوازن، يقول (ض)
أدعو إلى الإله بالتوحيد وما رأيت عنه من محيــد
لله أدعو بالتفقه بـــــــلا ميل لغيره وكلي قبـــــلا
لله أدعو بالتصوف معـا مكارم الأخلاق وهو سمعا

إستراتجيته:
وتبنى إستراتجية التربية المبنية على أسس فعالة قادرة على معالجة أمراض المجتمع السالفة الذكر، من هذه الأسس العلم، وأداء الشعائر ومجاهدة النفس والخدمة والقدوة الحسنة.

آثار دعوته:
وللدعوة الخديمية آثار جليلة في الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد انشرت في مناطق مرفقة من العالم، في أفريقيا وفي أوروبا وأمريكا الشمالية. ويمكن أن تقدم الكثير للعالم بشكل عام وللعالم الإسلامي بشكل خاصة.

هذه النماذج تمثل أهم الاتجاهات المؤثرة في الدعوات والحركات الإسلامية الحالية التي لها أصداء في فضاء المجتمع السنغالي، ومن خلالها يمكن أن نستنتج أن الحلول والإصلاحات، التي ووجه بها الأوضاع المتردية في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، كانت مختلفة طبقا لاختلاف الظروف والبيئات.
وعلى كل، فإن من شأن حاملي أي دعوة إصلاحية أن يحاولوا توسيع انتشارها واستقطاب أكبر قدر ممكن من الأنصار وخاصة في أوساط الشباب، الأمر الذي يجعل مسئولية هذا الشباب كبيرة أمام ما نشهدها في الوقت الراهن منالدعوات والحركات.

3
) مسئولية الشباب أمام الدعوات الراهنة

آ)
عوامل انتشار الدعوات

تزخر الساحة السنغالية في الوقت الراهن بعديد من الحركات والتنظيمات والدعوات، ويلاحظ بسهولة أن جلها استمدت أفكارها من دعوات سابقة انطلقت في محيط آخر، أو على الأقل تأثرت بها بشكل كبير.. فهناك التيار السلفي وتيار الإسلام السياسي والاتجاهات الصوفية، وكلها يشهد نشاطا، في العقود الأخيرة، بدرجات متفاوتة.
لاشك أن الظروف التي يمر بها السنغال منذ عهد الاستعمار إلى الآن تشجع بتنامي ظاهرة التنظيمات والتيارات والحركات، وذلك لعوامل عدة منها :

العامل السياسي:
إن القاعدة السياسية لم تزل، إلى حد الآن ضيقة ومحتكرة. فالأغلبية الساحقة لا تشارك في اللعبة السياسية، لطبيعة هذه العملية السياسية غير الأخلاقية، وللحاجز العلماني المفروض عليها. وهذا الوضع يدفع النشطين المهمشين إلى التحرك بعيدا عن السلطة السياسية، وربما إلى الانخراط في تنظيمات وحركات دينية.

العامل الاجتماعي/الاقتصادي
إن المجتمع السنغالي عانى ولم يزل يعاني – على الرغم من مجهودات المصلحين السابقين – من طبقية حادة، وتفاوت شديد في الإمكانيات المادية، ويعاني أيضا من قلة فرص العمل أمام الشباب الصاعد، كما أن الالتزام بالتعاليم الدينية لم يصل بعد إلى المستوى الذي يريده دعاتنا المصلحون.

عامل الانفتاح
إن الساحة السنغالية تعج بالأفكار والأيديولوجيات المتنوعة بعضها ذو طابع غربي وبعضها الآخر ذو طابع شرقي، وذلك بسبب ما يتسم به العصر الحالي من الانفتاح على العالم الخارجي. فالمعارف والصور والأفكار لم تعد لها حدود بفضل التطور في وسائل الاتصال والمواصلات. ومن الطبيعي أن تجد الدعوات المنطلقة في مناطق العالم الإسلامي أصداء في منطقتنا.
وبالإضافة إلى ذلك فإن بعض الدول العربية تسعى إلى نشر أيديولوجيتها وهيمنتها الفكرية بكل ما أوتي من سبل، وقد يقع البعض في براثنها جهلا وعن حسن نية أو طمعا في الثروة والجاه.

ب) مسئولية الشباب أمام الدعوات الراهنة.

وفي مثل هذه الظروف المذكورة تكثر الدعوات والتنظيمات والحركات؛ ويصعب التمييز بين غثها وسمينها، ومن هنا تكون مسئولية الشباب، وخاصة المتعلمين منهم، مسئولية تاريخية جسيمة، لكونهم مستهدفين في المقام الأول، وتتمثل في التعامل بشكل إيجابي وواع، وفي تبني موقف واضح وسليم تجاه القضايا المطروحة.
وعلى هذا المنطلق يتعين على الشباب أن يكونوا على مستوى تلك المسئولية التاريخية من خلال الأمور التالية:

1.الاهتمام بالتكوين الذاتي:
فعلى الشاب اليوم أن يهتم بتكوين نفسه بالمعارف المتاحة، وبالتزود بالقدرات والكفاءات التي تقتضيها العصر الحديث عصر التكنولوجيا والاتصالات. فلا ينبغي له أن يكل مهمة اكتساب المعرفة إلى آخر ويعتمد عليه في تقبل ما يأتيه به.

2.التحلي بالروح النقدية:
أصبح من الضروري اليوم التحلي بروح نقدية؛ فمن الخطورة بمكان تقبل كل وارد جديد دون تفكير ودون تمييز، فالبعض يعتقد أن كل ما يقرأه عين الصحة؛ وكلما ألقي إليه بحديث استسلم دون أي جهد للفهم والتدبر ومحاولة القراءة فيما بين السطور. ويجب التنبه إلى بعض وسائل المراوغة الفكرية التي يمارسها بعض التيارات لفرض أيديولوجيتها ( نعت الرأي المخالف بالبدعة أو الضلال، تنقية المصادر الإسلامية من الآراء المخالفة، ادعاء تبرئ العلماء الموثوق بهم من مواقفهم ....)

3.الانفتاح والاعتدال:
فكما يكون من الخطورة تقبل كل شيء فإنه لا يقل خطورة رفض كل جديد لمجرد أنه جديد وغريب؛ فالعالم يتطور والمعلومات الجديدة تنتقل الآن بسهولة أكبر. فنحن في عصر لا يتسنى لأحد أن يكون بمعزل عن الأفكار عن الأفكار الجديدة، والموقف السليم يتمثل في الاعتدال والتحلي بالوعي دون التقبل أو الرفض من غير أساس قوي.

4.الثقة بالنفس دون الغرور:
فلا يكون الشاب متفتحا إلا إذا كان واثقا بنفسه وعارفا بأن الله سبحانه وتعالى رزقه بالعقل ليفكر به، فهو يتمتع بما يتمتع به الآخرون . ولكن ينبغي التمييز بين الثقة بالنفس وبين الغرور الذي يمنع من الاستفادة ويؤدي إلى احتقار الآخر.

الخاتمة:
حاولنا بإيجاز أن نقدم نبذة عن الدعوات الإصلاحية في العالم الإسلامي وأن نعرض نماذج متنوعة من تلك الدعوات قبل تناول مسئولية الشباب وشروط القيام بها، وقصدنا في ذلك إثارة تفكير الشباب ودفعهم لاتخاذ مواقف إيجابية تصب في صالح دينهم ومجتمعهم.

والله ولي التوفيق

طوبى بتاريخ
27/8/2006
❊ورقة مقدمة في المخيم الصيفي لدائرة أنصار الدين الإسلامي
الهوامش:
1 - من المعروف أن هناك مناهج مختلفة لدراسة الأفكار منها: أ)المنهج الفردي وهو الذي لا يعترف بتأثيرات البنية المجتمعية، ويدعو أتباعه إلى قراءة كل مفكر على حدة بوصفه مفكرا خلاقا، وليس تعبيرا عن وسط اجتماعي وعن لحظة تاريخية. ب) المنهج التاريخي ويتسم بطابع القراءة الشمولية، ويجتهد دعاته في رد كل فكرة إلى أصل سابق. ج)المنهج الاجتماعي/ الماركسي الذي يعيد كل الظواهر الاجتماعية إلى البنى الطبقية والصراع الاجتماعي. وقد حاولت التوسط بعدم عزل الأفكار كليا عن سياقها التاريخي والاجتماعي أو عن الدوافع الذاتية والروحية، لاعتقادي بأن ذلك أقرب إلى الروية الإسلامية الوسطية.
2 - انظر ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للشيخ حسن الندوي
3 - أحمد أمين، زعماء الإصلاح،
4- الشيخ محمد الغزالي، مع الله، (1992) مكتبة أخبار اليوم
5- ينتقد المفكر السوداني الدكتور حسن الترابي الدعوة الوهابية بأنها تركز على الشرك في الحياة الخاصة دون التعرض للشرك في الحياة العامة (الاقتصاد والسياسة) وهذا الأخير لا يقل خطورة{انظر تجديد الفكر الإسلامي}. أما الدكتور يوسف القرضاوي فهو ينتقد هؤلاء الذين ينددون بعبادة القبور ثم يمارسون عبادة القصور!!
6- أحمد أمين، زعماء الإصلاح
7- الشيخ الخديم، مغالق النيران

من كرامات الشيخ أحمد بمب رضي الله عنه ... إصدار جديد لدائرة روض الرياحين

"عُرف  الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه بكراماته الكثيرة التي تناقلتها الركبان، ورواها ثقات عن ثقات في سياقات مختلفة من حياته، ولكن أبرز...