السبت، 3 ديسمبر 2022

رحلتي إلى بورتو نوفو (من مملكة داومي سابقا) إحدى محطات الشيخ الخديم في طريقه إلى الغابون

بحمد الله تعالى وصلتُ صباح الأمس (٢ ديسمبر ٢٠٢٢م) إلى بورتونوفو Porto Novo عاصمة بينين (مملكة داومي سابقا) بمناسبة الأيام الثقافية التي تنظمها الجالية المريدية في هذه المدينة منذ عشرين سنة، تخليداً لذكرى مرور الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه بها في رحلته إلى الغابون أثناء غيبته البحرية سنة ١٣١٣هجرية (١٨٩٥ميلادية).

ففي العاشر من ربيع الثاني ١٣١٣هـ الموافق للتاسع والعشرين من سبتمبر ١٨٩٥م رست في ميناء داومي السفينةُ التي كانت تقل الشيخ، بعد أن غادرت دكار يوم السبت الثاني من ربيع الثاني ١٣١٣هـ (٢١ سبتمبر ١٨٩٥م)[1]. وقد نقل صاحب "إرواء النديم" عن الشيخ كرامة أكرمه الله بها في داومي، وهي أنه رضي الله عنه أخذَ حقةً من المسك كانت عنده، ليرش بها ثيابه وكُتبه، فهتف به هاتف قائلا له : ألقِها في البحر، فلم يتردد، بل ألقاها، يقول رضي الله تعالى عنه: "فلما رست السفينة، دخل جمعٌ من إخواننا المسلمين، سمعوا بي، ليسلّموا عليَّ، فكل من سلَّم عليَّ دفع لي حقةً من المسك كلا أو جلا". وفيه يقول:

دعاني الرحيمُ عند داوُمِ له بما أغنى عن التساوم[2]

كان الشيخ في هذه المنطقة النائية وحيداً غريباً بين أعدائه، لا يستأنس إلا بالله وبالقرآن الكريم متوجهاً إلى مكان لا ناقة له فيه ولا جمل، ولم يكن له ذنب سوى سعيه لإعلاء كلمة الله وتجديد دينه وإصلاح مجتمعه، فأبى المحتل الفرنسي إلا أن يحول دون مبتغاه، فقرر إخراجه من بين أهله ومريديه، ولكنه رضي الله عنه وثِق بربه سبحانه وتعالى، وتوكَّل عليه، وتحلَّى بالصبر الجميل، وتحمّل الوحشة والغربة والطقس القاسي والبيئة المخيفة بمشاعر الشكر والرضى، لأنه كان يرى دائما نعمةً في طي النقمة.

ومما يدعو إلى العجب أن الشيخ حينما يذكر هذه الأماكن إنما يذكرها غالبا في مقام الرضى والشكر والتحدث عن نعم ربه عليه، وقد أشار في عدد من أبياته إلى بعض ما منَّ الله عليه في داوُم، ومنها:

أكرمني الأكرمُ عند داوُمِ بما به غنيتُ عن تساوم
**
ملَّكني الملك عند داوُم ما قد كفانيَ عِدى التساوم 
**
أغناني المغني عن التساوم به وبالمختار عند داوُم

ومن يتأمل في مسيرة الشيخ وغربته بالأمس وكيف صار أمره اليوم، حين يجتمع مريدوه في بورتو نوفو لتخليد ذكرى مروره بها، وهم يقرأون القرآن الكريم وينشدون قصائده مبتهجين وشاكرين الله تعالى على نعمه الوافرة، أمام جمع من مواطنيها، من بينهم بعض أمرائهم وأئمتهم، فلا بد أنه سيزداد إيماناً ويقيناً بوعد الله تعالى في قوله "وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين"، فقد نصر الله تعالى عبده الخديم كما نصر دعوته، ورفع شأنه، فتحوّل محلُّ غربته إلى محل يُحيِي فيه مريدوه ذكراه سنويا.

وقد لفت نظري بالأمس وأنا أدخل مدينة بورتو نوفو أن بلديةَ المدنية زيَّنت مدخلها الرئيس والشارع المتوجه إلى مكان الحفل بأعلام السنغال، وهي ترفرف على الأعمدة المتراصَّة في وسط الطريق مشيرةً إلى البُعد الوطني لشخصية الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وإلى أن سيرته جزء من تاريخ البلاد.

ولذلك يمكن القول: إن الشيخ الخديم في الوقت نفسه فخر ٌللإسلام، ورمزٌ للوطن، ومثال للإنسانية؛ وقد حان لإفريقيا – وللعالم الإسلامي - أن تكتشف منهجه ويستلهمَه من أجل تعزيز استقلالها وتسليح أبنائها بقيم التضحية، والتفاني، والجدية. 

وفي هذا المنظور تكون مسؤوليةُ المريدين في تجسيد هذا المنهج ونشره مسؤوليةً جسيمةً، وخاصة في ظل قيادة الخليفة الحالي سماحة الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله تعالى - صاحب الرؤية البعيدة والهمَّة العالية الذي ينوي الخير للبشرية جمعاء، ويحرصُ على توصيل رسالة الشيخ إلى العالم أجمع، ولا يدَّخر جهداً في سبيل تحقيق هذه الغاية.


                                                                 د. سام بوسو عبد الرحمن 

                                                                                                بورتو نوفو ٣ سبتمبر ٢٠٢٢م



[1]  وفقا لتحقيقات مجموعة سوْ سِوِ امبور   Sew sewi mboor (مجموعة مخصصة لدراسة تاريخ المريدية ومؤسسها)

الجمعة، 28 أكتوبر 2022

طوبى تياكنم تدشن المدرسة القرآنية الأولى من مدارسها "العُمومية"

أقامت منظمة طوبى تياكَنَمْ مشروعاً تربوياً يُعتبر من أهم مشاريعها الجديدة، وهو بناء مدارس قرآنية نموذجية "عمومية" في أحياء طوبى، وقد دشنت يوم السبت ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٢م أول مدرسة قرآنية أنشئت ضمن هذا البرنامج القيم. وهذا المشروعُ يتَّسم بأهمية قصوى، وخاصة في مدينة مثل طوبى، لأنها تُعدُّ مدينةً قرآنية، بالنظر إلى رغبة مؤسّسها الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه، ولاهتمام سكّانها بحفظ القرآن الكريم، ولما فيها من عدد لا يُحصى من المدارس القرآنية، فحسب دراسة أُجريت مؤخراً بلغ عددُ المدارس القرآنية في طوبى ١٥٢٤ مدرسةً، وعددُ المتعلمين فيها ١٢٧,٨٢٢ متعلما[1].

ولكن، مع هذا العدد الكبير لم يعد الحصولُ على تعليم قرآني جيدٍ في متناولِ الجميع، لأن هذه المدارسَ على كثرتها تنقسم إلى نوعين: نوعٌ يكون التعليُم فيه مجانيا لا يدفع أولياءُ تلاميذه مقابلا مادّيا، ونوع آخر يُقدم خدماتِه مقابلَ رسوم شهرية، وأغلبُه مدارس داخلية، تكون الرسوم الدراسية فيها أحيانا مرتفعةً نظراً لثقل التكاليف المتعلقة بتسييرها. 

فظروفُ الحياةِ والدراسةِ في النوع الأول لا تكونُ غالبا مناسبةً، وقد يلجأ الأطفال فيها إلى التسوّل، وربما يؤثر هذا الوضع سلباً في جودة التعليم فيها. وأما الالتحاق بالنوع الثاني فليس متاحا لعديد من الأسر ذات الدخل المنخفض.

في هذا السياق وضعت طوبى تياكنم هذا المشروع المهمّ الذي يمكن أن يضمن لقاعدة عريضة من أبناء طوبى تعليما قرآنيا يجمع بين الجودة والمجانية، من خلال بناء مدارس قرآنية "عمومية" تقوم بتسييرها وتعيين معلمين فيها. 

إن هذا المشروع يؤكد الرؤية الاستراتيجية لطوبى تياكنم المتمثلة في العناية بالتنمية البشرية بمختلف نواحيها، وخاصة الناحية الصحية والتربوية والبيئية؛ فإلى جانب بناء العيادات والمراكز الصحية، وإضاءة الشوارع، وتعبيد الطرق وتنظيفها، عنيت المنظمةُ بالمجال التربوي، فساهمت في مشروع الشيخ محمد المنتقى التربوي ببناء عمارة تتكون من أربعة طوابق وبتجهيزها بقيمة ٥٦٠ مليون فرنك بالإضافة إلى مساهمة قيمتها ١٠٠ مليون قدمت في بداية المشروع.

عناية طوبى تياكنم بالمدارس القرآنية

وأما اهتمام المنظمة بالتعليم القرآني فقد بدأ منذ ثلاث سنوات بعدد من البرامج المخصصة للمدارس القرآنية ومعلميها، مثل برنامج الترميم وبناء السقيفاتmbaar ودورات المياه، وبرنامج تكوين المعلمين، وبرنامج "وعاء المدرسة ndabul daara"[2]. فقد استفادت من البرنامج الأول ٢١٧ مدرسة، ومن البرنامج الثاني ٨٦٠ معلما للقرآن الكريم، وأما البرنامج الثالث فقد دخل في حيز التنفيذ. وهناك مشاريع مستقبلية قيد الدراسة تخص الجانب الصحي والقانوني في المدارس القرآنية.

واليوم تخطو طوبى تياكنم خطوة جديدة مهمة بإنشاء مدارس قرآنية يمكن أن توصف بأنها "عمومية" لكونها، على غرار المدارس الفرنسية العمومية، ملكاً للأهالي، لا يدفعون رسوما دراسية فيها، ويتقاضى معلموها من المنظمة رواتبهم. 

لا شك أن هذا المشروع سيلقى رضى الشيخ أحمد الخديم (رضي الله تعالى عنه) ورضى خليفته الشيخ محمد المنتقى المعروف بعنايته الشديدة بنهضة التربية والتعليم في مدينة طوبى المحروسة التي أسست لتكون مدينة علم وعمل وأخلاق، كما يتجلى في قصيدة "مطلب الفوزين".

ويظهر أن المشروع مدروس بعناية، فالاسم المختار "دار تَانِّيفْ tanneef" يكشف عن غاية المنظمة المتمثلة في إعداد النشء إعداداً يجعلهم خياراً متميزين، وتحديدُ عدد الأطفال في كل حلقة بخمسة وعشرين يدلُّ على حرصها على جودة العملية التعليمية في هذه المدارس. وعدد التلاميذ في كل مدرسة محددٌ بـ١٠٠ تلميذ (٥٠ من الذكور و٥٠ من الإناث).

وفي الختام يمكن القول: إن منظمة طوبى تياكنم بهذه الرؤية التنموية الإستراتيجية تجسد فلسفة الشيخ الخديم رضي الله تعالى في خدمة المسلمين، ابتغاء لمرضاة الله تعالى، كما أنها تتبنى في عملها مبدأ التخطيط الإستراتيجي الذي ينطلق من دراسة الأوضاع وتشخيصها بحيث يكون تدخلُها مناسبا وملبيا للاحتياجات الحقيقية لمدينة طوبى المحروسة وسكانها.

فقد أن الأوان – في نظري- أن يهبَّ جميعُ فاعلي الخير لنصرتها حتى يتحقق هدفها في تعبئة مليوني فرد يساهم واحد منهم شهريا بـ ١٠٠٠ فرنك إفريقي، لكي تصل إلى الغايات التي تصبو إليها، فالمشاركة في إنجاز مشاريعها استثمار مضمون لا خسارة فيه "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول لكافر يا ليتني كنت ترابا"[النبإ، ٤٠]. 

                                                         د. سام بوسو عبد الرحمن 



[1] المصدر TCK من دراسة قامت بها مؤسّسة الخدمة khidma بالتعاون مع رابطة المدارس القرآنية في طوبى Résultats de la cartographie géolocalisée des daaras de Touba, www.globalsolidarityinitiative.org)

[2]  في إطار هذا البرنامج تشتري طوبى تياكنم أوعية توزعها على المنازل المجاورة للمدارس القرآنية، بحيث تضع فيها ربة المنزل طعاما مخصصا لأطفال المدرسة المجاورة لها.



مقالات ذات صلة 

"طوبى تيَاكَنَمْ" تعلن انطلاق "كَرْ أَسَكَيِ" أو بيت الزكاة بإذن من الشيخ محمد المنتقى حفظه الله تعالى ورعاه.



الجمعة، 30 سبتمبر 2022

رحيل العالم الرباني الشيخ عبد الرحمن امباكي دار المعطي بعد حياة حافلة في خدمة العلم والدين

استيقظنا صباح اليوم (الخميس ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٢) على خبر ثقيل ومفاجئ غزا مواقعَ التواصل الاجتماعي في وقت مبكر، وهو خبر انتقال الشيخ الجليل العالم الربَّاني الزاهد الورع التقي، بقية السلف الصالح خادم العلم والدين، الشيخ عبد الرحمن امباكي ابن الشيخ عبد القدوس ابن الشيخ إبراهيم فاط، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه في فسيح جناته.

ما إن وقعت عيني على هذا الخبر المفاجئ حتى بدأتُ أفكر في حياة هذا الشيخ في تواضعه وفي عظمة ما قدَّمه للمسلمين في هذه المنطقة: فقد عاش - رحمه الله تعالى - حياةً حافلةً وثريةً، كلّها عبادةٌ وخدمةٌ للعباد، من تربيةٍ، وتعليم، وكتابةٍ، ودعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة


كان سخاء الشيخ  في علمه يثير الإعجاب، فقد كان يستخدم كلَّ الوسائل العصرية المتاحة لنشر العلم والمعرفة، وتوعية المسلمين باللغة الوُلُفية التي يفهمها أغلب سكان البلد؛ وهكذا، خلَّف رضي الله تعالى عنه مكتبةً صوتيةً قيمةً؛ كان منذ عقود من الزمن يسجِّل في الشرائط دروسَه التي كان يُلقيها على طلبة العلم في حلقته، وشملت تلك الدروس جميع الكتب المدرسية المتداولة في المجالس التعليمية  (المحاظر) في السنغال، من توحيد، وفقه وأصول، وتصوف، وحديث، ولغة، وأدب، وتاريخ، وسيرة ، واعتنى فيما بعدُ بإعادة تسجيل تلك الكتب التعليمية، لما ظهرت وانتشرت أدوات التسجيل الإلكترونية الحديثة الأنقى صوتا، حرصاً منه على زيادة وضوح التسجيلات  وانتشارها.


في الواقع، كان العلامة الشيخ عبد الرحمن رائداً في هذا الميدان، وقد أحدث فيه ثورة حقيقية، وأضفى عليه طابع الديموقراطية: أصبح التاجر يتعلم في دكانه، والفلاح في حقله، والصانع في ورشته، وصارت مضامينُ الكتب الشرعية واللغوية الأساسية المستعملة في مناهجنا التربوية في متناول الجميع. 


كان للشيخ أسلوب متميز يجمع بدقةٍ متناهيةٍ بين ترجمة الألفاظ وشرح المعاني باللغة الوُلُفية بدون تطويل ممل ولا إيجاز مخل، فكان يقيد الشوارد ويبين الغوامض، فانتفع بهذا العمل الجليل مختلف شرائح المجتمع، لا فرق في ذلك بين المتعلمين المثقفين والعمال البسطاء. كل يجد ضالته في تسجيلاته بصرف النظر عن مستواه.


ولحرص الشيخ عبد الرحمن على نفع المسلمين بالذخائر الموجودة في التراث المريدي لم يهمل  دررَ الأمداح النبوية التي حبّرها الشيخ الخديم رضي الله عنه، ووصاياه وحكمه، وكذلك  المراجع الأساسية في سيرته، فقد شرح العديد منها بالولفية.

وإلى جانب هذه الجهود في نشر التراث الإسلامي المريدي، كان الشيخ يهتم بنسخ قصائد الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه ومؤلفاته بخط يده.


ومن ناحية أخرى كان الشيخ عبد الرحمن غيوراً على الإسلام، ومهتما بقضايا المسلمين، وكان يسخّر قلمه لينافح  عن دينه وعن أمة نبيه، وليبرز مواقفه الشجاعة في كل ما يَهُم هذه الأمة. وله إنتاج أدبي ثري يتسم بالتنوع والجمال والعمق (انظر ديوانه هنا).


اشتهر الشيخ عبد الرحمن بمجلسه التعليمي في دار المعطي والذي خرج العديد من العلماء البارزين وبتسجيلاته وكتاباته القيمة، ولكنه كان يقف بجانب الضعفاء والمحتاجين، وخاصة أصحاب المدارس القرآنية، فقد كان يمدُّهم بمساعدات سخية لا يُطلع عليها أحداً.


وهذا غيضٌ من فيض أعمال جليلة قام بها الشيخ عبد الرحمن بصمت، وفي حياة تتصف بالزهد والتقشف والتواضع واللين والرفق واللطافة والصفاء والحلم.

ويمكن القول في النهاية: إنه كان من الرجال الذين إذا رُءوا ذكر الله تعالى، وفي الحديث "ألَا أُنبِّئُكم بخِيارِكم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: خياركم الذين إذا رءوا ذكر الله عز وجل[1].  

فجزاه الله تعالى عن الاسلام والمسلمين خيراً وألحقه بآبائه ومشايخه الصالحين، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصدقين والشهداء والصالحين، وحسن أوليك رفيقا.

                                                                د. سام بوسو عبد الرحمن 

                   تحميل ديوان الشيخ عبد الرحمن رحمه الله تعالى عنه

               هذا الرابط لصفحة تحتوي على كثير من الكتب التي شرحها بالولوفية

 




[1]  صحيح ابن ماجه: 3/349

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2022

محاضرة روض الرياحين بمناسبة المغال لسنة ١٤٤٤هـ ٢٠٢٢م حول "صلة الرحم في فكر الشيخ الخديم وتعاليمه"

بمناسبة الاحتفال باليوم الثامن عشر من شهر صفر المعروف بـ"مغال "، نظمت دائرة روض الرياحين كعادتها محاضرتها السنوية العامة في دار الضيافة بمدينة طوبى المحروسة، وذلك بحضور عدد من الوفود المشاركة في هذه المناسبة، وبرئاسة الشيخ أحمد البدوي المنسق العام لروض الرياحين، والشيخ إسحاق امباكي، ممثل سماحة الخليفة العام الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله تعالى - وتناولت المحاضرة موضوع "صلة الرحم في فكر الشيخ الخديم وتعاليمه"، وألقاها سام سوسو عبد الرحمن.


وقد تم اختيار هذا الموضوع في سياق هذا عصر الذي تستولي فيه الماديات والنوعية الفردية على عقول كثير من الناس ونفوسهم، حتى أغفلوا عن مراعاة القيم الإسلامية في توطيد علاقاتهم الإنسانية وتحسينها، ومن بين هذه القيم التي يتم تجاهلها في الوقت الراهن صلة الرحم . وقد يسهم الحديث عن هذا الموضوع في ترجمة هذه القيمة الإسلامية المهمة إلى واقع حياة الأفراد والمجتمع، وفي نشر التواؤم والانسجام في النسيج الاجتماعي، وفي إظهار جمال الإسلام وصلاحه في كل مكان وزمان.

والشيخ الخديم رضي الله تعالى قدوة رائعة في صلة الرحم وفي تعزيز الأخوة الإيمان، يجب إبرازها واستلهامها في علاقاتنا مع أقاربنا ومع إخوتنا في الدين لكي يتحقق الانسجام والتماسك في المجتمع.





 

 

 

 

الخميس، 18 أغسطس 2022

نظرة تأملية حول مقابلة تاريخية مع الشيخ محمد المصطفى الخليفة الأول سنة ١٩٣٤م

نشرت جريدة "الجمهورية" في عددها الصادر في العاشر من مارس ١٩٣٤ ميلادية تحقيقا صحفيا تضمن مقابلة مع الشيخ محمد المصطفى الكريم (١٨٨٨م-١٩٤٥م) الخليفة الأول لمولانا الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنهما، ونود هنا إلقاء نظرة تأملية خاطفة حولها.

وقبل الشرع في سرد الحوار مع الشيخ محمد المصطفى عني الصحفي روبير دي لافينيات Robert Delavignette بوصف ما شاهده خلال رحلته إلى طوبى، وما عاينه في دار الخليفة بتفصيل دقيق، كأنه يقدم للقارئ فيلما سينمائيا عن جو المقابلة، ولم يبخل في التفاصيل حول البيئة المحيطة بالشيخ وحول مظهر الشيخ نفسه.


نص الحوار

كانت الكلمات الأولى التي أوردها عن الشيخ هي:" من ليس عنده شيء يخفيه يسعده أن يقول ما يفعل. تريد أن تعرف لما ذا أدعو الناس إلى العمل. لأن فيه تربية وتهذيبا للأخلاق. فالعمل هو الذي يوفر للشخص غذاء وكسوة، ويمكنه من أن يُطعم ويكسوَ الآخرين ويخدمَ شيخه. وهذا هو السعادة".

 

-    وما هو العمل الأساسي؟

-     العمل في الأرض (الزراعة)!

وبصوت ناعم (...) أضاف الشيخ قائلا:

-      نحن نفضل الأسوار والبيوت المصنوعة من الصفائح المعدنية لتحل محل الأسوار والأكواخ المصنوعة من القش، لأن هذا تقدُّم مسموح به. فمع الصفائح المعدنية لم يعد توجد إصلاحات سنوية، ولا فئران، ولا حرائق. عموما، فيما يخص المسكن، والغذاء، والكسوة، يمكن الاستفادة من الحضارة المادية للأوروبيين بما يتفق مع نهج المريدين.

 

-      هل يمكن لبس المعطف بدلا من الدراعة (Boubou

-       لم لا، إذا كان ذلك لا يزعج المؤمن في سجوده أثناء الصلاة؟

 

-      إذا كان سعر الفستق مرتفعا فيم تأمر مريديك أن يستخدموا تلك الأموال؟

-      يقول الله تعالى في القرآن الكريم؟" يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ"، فيجب على المريد أن يتصدق من الأموال المكتبسة من العمل، ويشتري منها أشياء مفيدة. نحن نطلب محاريث للزراعة. ونريد أن نضع محاصيلنا من الحبوب في أكياس بدلا من تركها جزافا في سنابلها، ونود أيضا أن نحصل جميعا على ناموسيات، كما نريد أن نجرب آلات لدق الحبوب.

 

تعليق الصحفي

علق الصحفي على الحوار بقوله: إن قيمة هذه المحادثة تكمن في صدق هذا الشيخ الكبير. إنه بمثابة "البابا" لا يمكن أن يخطئ. وقد كتب بالعربية إلى مريديه " إن الشرط الأساسي لفوز المريد هو امتثال أوامر شيخه "

فلم يعد هناك مناقشات دائمة وعنيفة تعقبها أحيانا ضربات بين علماء المسلمين حول تفاسير القرآن وحول أفضلية دعاء ما على أخرى. هنا زعيم واحد هو الشيخ. يجب طاعته بصرامة. ويجب اكتساب الثروة من خلال العمل والتجارة.

 

تأملات حول المقابلة 

إنها مقابلة وجيزة ولكنها مفعمة بالدلالات العميقة، تكشف عن رؤية الشيخ محمد المصطفى للعمل والكسب، ونظرته الثاقبة حول إشكالية العلاقة مع الحضارة المادية الغربية، وعن شخصيته القيادية.

 

فيما يخص العمل، يجسد الخليفة فلسفة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه فيه، لأنه ينظر إلى العمل باعتباره وسيلة من وسائل تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، ويعتبر زراعة الأرض العمل الرئيس للمريدين، وطريقة من طرق كسب الحلال الذي من خلاله يوفر الإنسان حاجاته الأساسية من غذاء، وكساء، ومسكن، لنفسه وللآخرين، ويخدم مجتمعه ودينه. 

وهذه الروية حول العمل تعكس منهج الشيخ الخديم رضي الله تعالى الذي يقول

            أما البطالة وتضييع العمر      بغير ما يعني فداؤه يضر

            (...) 

            وطلب الحلال فرد ينتمي      لكل مسلم بغير وهــم

فالعمل في نظر الشيخ الخليفة ليس من أجل تكديس الأموال لاستخدامها في إشباع الشهوات النفسية، بل من أجل صرفها فيما ينفع الخلق، ويرضي الخالق تعالى من الصدقة والإنفاق، وشراء الأشياء المفيدة، وهذا يتفق مع توجيه الشيخ الخديم بشأن الحال.

            وإن وجدتَّه فلا تُضيِّعا         ومن يُضيِّع الحلالَ ضُيِّعَا

وأما نظرة الشيخ محمد المصطفى حول إشكالية العلاقة مع الحضارة المادية الغربية فهي تتسم بالعمق والتوازن، وخلاصتها: أنه يجب الاستفادة من التطور المادي لتحسين ظروف العيش وتطوير أساليب العمل مع التمسك بالمعايير والقيم الإسلامية الكامنة في تعاليم الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه. فلا يرفض أي تطور جديد لا يؤثر سلبا في الحياة الدينية.

ومن جوانب شخصية الخليفة التي تكشف عنها هذه المقابلة بُعدُه القيادي المتمثل في اهتمامه الشديد بمصالح المريدين بأدق تفاصيلها، فنراه يسعى لإيجاد المحاريث للزراعة، وحفظ المنتوجات من الفساد، وتوفير الناموسيات لحماية الناس من الأمراض وإيجاد آلات لدق الحبوب.

 

وأخيرا، تتلمس في تعليق الصحفي إعجابه بشخصية الخليفة الذي تتراءى أمارات الصدق، والجدية، والرؤية الثاقبة من كلامه. وقد خرج من خلال مقابلته مع الشيخ الخليفة وملاحظاته بنتيجة مهمة، وهي أهمية وجود زعيم مسموع الكلمة ومطاع الأوامر يقود قومه نحو الأمور الأساسية، والمطالب العليا، ويحميهم من الغرق في متاهات المناقشات والمسائل الخلافية المثبطة للهمم، المثيرة للنزاعات والصراعات.

                                                د. سام بوسو عبد الرحمن  

الاثنين، 8 أغسطس 2022

ورشة مصادقة فنية لأعمال قسم المدارس الحديثة التابع لمجمع الشيخ أحمد الخديم بطوبى

في دار الضيافة بدار المنان طوبى، نظمت اللجنة التوجيهية لمجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين على مدار يومين ورشة مصادقة فنية لأعمال قسم المدارس الحديثة التي أنجزت في إطار المشروع التربوي لسماحة الخليفة الشيخ محمد المنتقى حفظه الله تعالى ورعاه. وهي أعمال تتعلق بتحسين البرامج التعليمية المختلفة المعمول بها في المدارس النظامية في طوبى: المدارس العربية الإسلامية، والمدارس الفرنسية العربية، والمدارس الفرنسية التقليدية.
هذه الأعمال كانت تتمثل في: 
- تحسين تلك البرامج التعليمية المختلفة بإضفاء صبغة محلية عليها من خلال مراجعة مواد التربية الإسلامية وربطها بكتابات الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه، 
- إعداد برنامج للغة الفرنسية وللإنجليزية لصالح المدارس العربية الإسلامية، 
- إعداد محتويات لمادة التربية الدينية للمرحلتين الإعدادية والثانوية للمدارس الفرنسية التقليدية.
وقد شهدت الورشة مشاركة ممثلينَ لبلدية طوبى، وممثلين لمفتشية جربيل الأكاديمية، وممثلين لمفتشية امباكي للتربية والتكوين، وممثلين للمدارس الحديثة في طوبى من الإداريين والمدرسين، وخبراء تربويينَ، ومدرسينَ مختارين من قبل القسم.
وقد ترأس الجلستين الافتتاحية والختامية الشيخ أحمد البدوي امباكي رئيس المجمع باسم سماحة الخليفة الشيخ محمد المنتقى. 

طوبى، يوم الأحد السابع من أغسطس ٢٠٢٢م

د. سام سوسو عبد الرحمن 
منسق اللجان الفنية 












                                             

الثلاثاء، 5 يوليو 2022

زيارة وفد من مجلس حكماء المسلمين لطوبى


في الثالث من يوليو ٢٠٢٢، زار وفد رفيع المستوى من مجلس حكماء المسلمين لطوبى برئاسة أمينه العام المستشار القاضي محمد عبد السلام، يتكون من معالي السيد آدم جينغ المستشار الخاص للجنة العليا للأخوة الإنسانية ولمجلس حكماء المسلمين، والدكتور سمير بو دينار المدير التنفيذي لمركز البحوث التابع لمجلس حكماء المسلمين، والسيد أحمد حمدي مدير مكتب الأمين العام لمجلس الحكماء، والدكتور أحمد بركات المدير الإعلامي في مكتب الإمام الأكبر شيخ الازهر والسيدة خديجة كابلي مدير مشروع في اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، وكان الوفد برفقة معالي السفير بابكر با مستشار رئيس البرلمان السنغالي للشؤون الدبلوماسية، والنائب السابق في البرلمان السيد أحمد بمب صال المستشار الخاص لرئيس البرلمان.

وقد استقبل الشيخ أحمد البدوي امباكي رئيس مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين الوفدَ باسم سماحة الخليفة الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله تعالى – في دار الضيافة، ثم رافقه في زيارته للمسجد الجامع، وروضة الشيخ أحمد بمب رضي لله تعالى عنه، ومكتبة الشيخ الخديم قبل توجهه إلى زيارة الشيخ الخليفة.

وأثناء اجتماع الوفد بالخليفة، ألقى الشيخُ أحمد البدوي كلمةً رحّب فيها بالوفد، باسم سماحة الشيخ محمد المنتقى، وشكرهم على "هذه الزيارة الكريمة لمدينة طوبى التي تُعْتبرُ رمزاً للسَّلامِ والمحبةِ والتلاقِي بين البشر بِـمُخْتَلفِ شرائحِهِم ومَشارِبِهِمْ وانتماءَاتهم"، وبيَّن فيها أن الأهداف التي يسعى المجلس لتحقيقها تتماشى مع دعوة الشيخ أحمد الخديمِ رضي الله تعالى عنه وَمَنْهَجِه السِّلْمِيِّ" وأشار إلى أن الشيخ جعل العلوم والتقوى وسائلَ لجهادِه، كما يقول: "كتابتي نابت عن السلاح". ومن هنا أكّد للوفد أن الشيخ الخليفة يُرحِّب بكل مبادرةٍ من شأنها الإسهام في تحقيق السلام والعدالة للبشرية جمعاء.

وبعد هذا الترحيب، تناول الأمين العام الكلمة ليبلغَ الشيخَ الخليفة تحيات رئيس المجلس الإمام الأكبر أ. د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وشكر في كلمته الشيخ الخليفة منوِّها بمواقفه الإيجابية تجاه قضايا الأمة، وبجهوده المستمرة في ترسيخ السلام في المجتمع السنغالي المسلم، تماشياً مع تعاليم مؤسسة الطريقة المريدية الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه المعروفة باتجاهه السلمي، ثم عبّر عن ارتياحه وشعوره بالطمأنينة في زيارته لمدينة طوبى، وأخيراً، قام بتعريف المجلس وبيان أهم أهدافه للشيخ، "فهو هيئةٌ دوليَّة مستقلَّة تأسَّست في 21 رمضان من عام 1435 هـ، الموافق 19 يوليو عام 2014 م، تهدف إلى تعزيز السِّلم في المجتمعات المسلمة، وتجمع ثلَّة من علماء الأمَّة الإسلاميَّة وخبرائها ووجهائها ممَّن يتَّسمون بالحكمة والعدالة والاستقلال والوسطيَّة، بهدف المساهمة في تعزيز السِّلم في المجتمعات المسلمة، وكسر حدَّة الاضطرابات والحروب التي سادت مجتمعات كثيرة في الآونة الأخيرة، وتجنيبها عوامل الصراع والانقسام والتَّشرذم ".

وقبل المغادرة طلب رئيس الوفد من الشيخ محمد المنتقى أن يدعو الله تعالى له ولرئيس المجلس، كما قدم إليه هدايا رمزية من كتب ووثائق تتعلق بالمجلس، وأعطاه الشيخ الخليفة من جانبه بعضا من مؤلفات من تراث الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه، أصدرته دائرة روض الرياحين، بالإضافة إلى كبش جميل. وبعد صلاة العصر غادر الوفد مدينة طوبى متوجها إلى دكار.

 د. سام بوسو عبد الرحمن 

الجمعة، 17 يونيو 2022

الضيافة التاريخية للشيخ الخديم (رضي الله تعالى عنه)في دار السلام... نظرة تأملية

في العشرين من شهر ذي القعدة يُحيي المريدون ذكرى حدثٍ تاريخيٍّ جرى في دار السلام، الواقعة في جنوب مدينة طوبى على بعد سبع كيلومترات، وهو الضيافة الاسطورية التي قدَّمها الشيخ سيدي المختار لأخيه وشيخه، حينما رجع من غيبته البحرية في غابون، ترحيبا واحتفاء به. وهذا الحدث لهُ دلالات عميقة تستحق الدراسة والتحليل، وذلك بالعودة إلى سياقه التاريخي. 

إن الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه قضى سبع سنوات وبضعة أشهر في جزر الغابون، بعد أن حكمت عليه سلطات الاحتلال الفرنسية بالنفي ظلماً وزوراً، وكان الشيخ رضي الله تعالى قد بايع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بخدمته وبالجهاد في إحياء سنته، وعانى محنا لا يتصورها العقل؛ فقد خلت قصوره، وتفرق أهله، وتشتت شمله وتعرض مريدوه للاضطهاد والمضايقة، كما وصف هذا الوضع الأليم بنفسه: 

         قصوري خلت والأهل عني تقرقت     لمدح الذي عنه المديح قصير[1] 

وكان هذا التغريب شديدَ الوقْع على أهله ومريديه وعميقَ الأثر في نفوسهم، يقول الشيخ امباكي بوسو في وصف ذلك الخطب:

        إنا دُهمنا بخطْبٍ ما تهدُّ له         صمُّ الجبال الرواسي أيما هدد[2]


وكان الشيخ من جانبه يتحمّل محنته بالصبر والرضى والشكر، وكان يبتهل إلى الله أن يعجِّل الله أوبته ويجعلها سببا لسعادة لقومه، يقول رضي الله تعالى عنه:

         اجعل رجوعي إلى قومي سعادتنا   ولتكفنا يوم جمع الخلق نيرانا[3]


وبعد أكثر من سبع سنوات من المحن والمعاناة، يسر الله تعالى رجوع الشيخ إلى وطنه بين أهليه ومريديه الذين كانوا قد استوحشوا بغيبته، وتشتتوا، ولزموا بيوتهم.

نزل الشيخ في الحادي عشر من شهر نوفمبر ١٩٠٢م (شعبان ١٣٢٠هـ) في ميناء دكار وسط أمواج عارمة من الفرح والسرور، ثم غادرها متوجها إلى سانت لويس، ومنها إلى دار السلام، مرورا بعدد من قرى مريديه ومنازلهم، إلى أن وصل إليها في شهر شوال، وهي القرية الأولي التي كان قد أسسها، وأبقى  فيها أخاه الشيخ سيدي مختار مع عدد من أتباعه الأوائل، ونزل فيها في ضيافة مريده وأخيه الشيخ سيدي المختار. 

وكانت عودة الشيخ إلى دار السلام مناسبة مهمة في تاريخ المريدية، احتفى بها جميع المريدين، وتولَّى أخوه الشيخ سيدى المختار شأن ضيافته، وأنفق فيها أموالا طائلة؛ فخلال أسبوع، نحر وذبح من الإبل، والبقر، والغنم، والدجاج وغيرها ما عجزت الألسنُ عن وصفها، واجتمع في دار السلام طيلةَ هذا الأسبوع عددٌ كبير من الشيوخ، والمريدين، والأهل، والاقارب، من أجل زيارة الشيخ والاحتفاء به. 

وقد خلَّد الشعراء والقصاصون هذا الحدث التاريخي ووصفوه بأجمل الأساليب وبأدق التفاصيل. وأبدع المؤرخ الشيخ موسى كاه في مرثيته لمام شيخ أنت في وصف ما قام به من أنواع والإكرام والقرى. وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالمناسبة لم يتم التطرق – فيما نعلم - إلى ما يكمن وراءها من دلالات يمكن الوقوف عليها إذا أمْعَنَّا النظر في سياقها التاريخي وفي الظروف التي وقع فيها.


إن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو ما في هذه الضيافة من التعبير عن الشكر، والامتنان، وعن مشاعر الفرحة، والابتهاج بقدوم الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه بعد غيبته الطويلة، حيث كان أهلُه ومريدوه يشتاقون إلى رؤيته أشدَّ الاشتياق، وطال انتظارهم لعودته، كما نفد صبرهم. وإلى جانب هذا المعنى، كان لقاء الشيخ بمريديه وأهله في دار السلام في تلك الأجواء الروحية والاحتفالية يحمل، في نظري، دلالة واضحة على انتصار المشروع الخديمي وفشل المشروع الاستعماري.


إن مشروع الاحتلال الفرنسي من نفي الشيخ إلى جزر نائية مثل الغابون ومن تفريق مريده كان، في حقيقة الأمر، يتمثل في وأد دعوته وإيقاف مشروعه التربوي الذي بدأ مفعولها يظهر في سلوك مريديه، وكانت الضيافة في دار السلام بمثابة إعلان فشل مخططات هؤلاء المحتلين؛ فها هو الشيخ يلتقي من جديد بمريده وأهله في أجواء إيمانية عارمة، وكان ذلك تعبيراً عن الاحتفال بانتصار الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، والحرية على الاستبداد.


ومن ناحية الأخرى كان اللقاء في دار السلام مناسبةً للمِّ شمل المريدين وإعادة الثقة والطمأنينة في نفوسهم، وفرصةً للتواصل بين شيوخ الطريقة، بعد أن تعرضوا للتفريق من قبل سلطات الاحتلال، وعانوا من اضطهاد الأمراء المحليين. فقد اضطر كثير منهم إلى العزلة في منطقته تجنبا لمضايقات المحتلين. وقد وصف العلامة الشيخ امباكي أحد كبار المريدين هذه الظروف الصعبة، وما عانى فيها المريدون العُزَّل الذين لم يكونوا يعرفوا سوى الاشتغال بالعلم، والعبادة، والعمل في حقولهم، يقول رضي الله تعالى عنه:


تخريـب دور وإجلآ معشـر كشف     ميـل معا زيل لا يرجون غـير غد  

لا يعرفون سـوى غشيان مسجدهم      أو درس ألواحهم والحرث بالجرد 

قـد عاجلوهم بتنكيل على تهـم         لم تـرو إلا عن أعداء لهـم حسد

كم صبية وذوات الخدر ضائعة         بنفي شخـص ولم يفعل ولم يـرد[4]


وأخيرا، عاشت الطريقة المريدية أياماً عصيبةً في تلك السنوات السبعة، شلَّت نوعاً ما حركتها وكادت تؤدي بحياتها لولا عون الله تعالى وعزيمةُ شيوخها أمثال الشيخ إبراهيم فاط، والشيخ أحمد دومبي، والشيخ أنت امباكي، والشيخ محمد جارة، والشيخ إبراهيم فال، والشيخ امباكي بوسو، والشيخ عبد الرحمن لوح، وغيرهم من الشيوخ الذين بذلوا النفس والنفيس في حماية أسرة الشيخ وفي التمسك بمنهجه والتشبث بتعاليمه. وكان الاجتماع والتلاقي في دار السلام بمثابة ولادة جديدة للطريقة عززت المعنويات وقربت المتباعدين وأذكت حماسة الأتباع وهيأتهم لتحمُّل غيبة الشيخ رضي الله تعالى عنه في موريتانيا.


فهذه جوانب مغيبة في الحديث عن هذه المناسبة أثيرها هنا لتحفيز الباحثين على إعادة النظر فيها، وتخصيص دراسات واسعة حولها وحول آثارها في حياة الطريقة فيما بعدها. 

                                                                د. سام سوسو عبد الرحمن



[1] من قصيدة للشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه، ومطلعها

أسير مع الأبرار حين أسير       وطن العدى أني هناك أسير

[2]  من قصيدة للشيخ امباكي بوسو موجهة إلى الحاكم العام ومطلعها 

قل للأمير ولا ترهبك هيبته      إن المهابة خدن العدل والسدد

[3] [3] من قصيدة للشيخ أحمد الخديم مقيدة بحروف قوله تعالى " ولقد كرمنا بني آدم إلى آخر الأية

[4]  من قصيدة للشيخ امباكي بوسو موجهة إلى الحاكم العام ومطلعها 

قل للأمير ولا ترهبك هيبته      إن المهابة خدن العدل والسدد

 

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...