الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

قصة رحلتي إلى الغابون : يوميات رحلة على خطى الشيخ الخديم رضي الله عنه(ج ١)

 كنت من بين المختارين للمشاركة في فعاليات الأسبوع الثقافي الذي نُظم في غابون ضمن الأنشطة التحضيرية لذكرى الغيبة البحرية للشيخ الخديم رضي الله عنه.

وفي يوم الخميس 22 اكتوبر 2015 غادرتُ بإذن الله تعالى منزل الشيخ أحمد البدوي بدكار Dakar في الساعة الثالثة وعشرين دقيقة بعد الظهر متوجها إلى مطار لوبول سنغورLSS.

كنتُ أفكر - وأنا داخل سيارة تاكسي وهي تنطلق بي نحو المطار - في الفرق الشاسع بين الليلتين التي قضيتهما في داكار استعدادا للرحلة وليلتي الشيخ الخديم (رضي الله عنه) في هذا المدينة قبل رحيله إلى غابون، بعد أن حكمت عليه السلطات الاستعمارية بالنفي وإليهما يشير في بيتيه المشهورين
      إذا ذكرتُ ذلك المبيـــــــــــتا *** وذلك الأميــــــــــرَ والتثبيتا
      طارت إلى الجهاد بالأرماح ***  نفسي ولكن ذبَّ عني الماحي

كان المستعمر الفرنسي ينظر إلى الشيخ باعتباره معتقلا ولكن الشيخ من جانبه لم ير القضية من تلك الزاوية؛ فقد بايع رسول الله صلى الله تعالى عليه بخدمته ولم تكن جنايته سوى أنه رفض الخضوع لسلطة أخرى غير سلطة الخالق سبحانه وتعالى، وكان يربي أتباعه على هذا التوحيد الخاص، فاعتقل وحُكم عليه في ٥ سبتمبر ١٨٩٥ بمدينة سانت لويس Saint Louis عاصمة المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا، ونقل إلى داكار في 18 سبتمبر 1895وهنا قضى يومين قبل رحلته.
كانت مسيرة الشيخ في حقيقة الأمر مسيرة روحية وإن بدا هو في ظاهر الأمر معتقلا، وإلى ذلك يشير في مطلع قصيدته المشهورة "أسير"
        أسيرُ مع الأبرار حين أسيرُ **** وظنَّ العدى أني هناك أسيرُ

كانت خواطري ومُخيلتي تطوف بي في أجواء الماضي، فبدأت أفكر في أحوال الشيخ : كيف قضى ليلتيه في معاناة والآلام وكيف قضيتهما أنا في راحة وعافية في منزل أحد أحفاده، كيف قضيتهما وأنا في تنقل مستمر بين القنوات التلفزيونية حينا أتابع نشرات الاخبار وحينا أتابع برنامجا دينيا في Lampe TV أو Touba TV أو حوارا سياسيا في TFM وكيف قضاهما الشيخ يتلو كتاب ربه ويرتله بقلب خاشع ويناجيه بالابتهالات فعاتبتُ نفسي في غفلتها وضعف همتها!
وبينما كنت أسرح في أجواء هذه التأملات فإذا بالسيارة تقف أمام بوابة المطار فنزلت ودخلت المطار وقمت بإجراءات التسجيل والدخول إلى قاعة الانتظار.

وفي قاعة الانتظار واصلت التفكير في يوميات السفر التي سجلها الشيخ بنفسه في "جزاء الشكور العطوف" وما جرى له من عمليات المضايقة والاستهزاء ونحو ذلك وأتخيل جو الطائرة وما فيها من مظاهر الضيافة والحفاوة فوجدت البون شاسعا بين الحالتين فتذكر حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : "قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه "

أقلعت الطائرة في الساعة السادسة والنصف وهبطت بنا في مطار أوفت بوانيي بأبيدجان Abidjan عاصمة ساحل العاج Côte d'Ivoire في الساعة التاسعة والربع، وأمر الطاقم المتوجهين إلى لبرفيل Libreville بالبقاء على متن الطائرة لمواصلة الرحلة بعد حوالى ساعة.
وكنت جالسا إلى جنب الاستاذ شيخ غي نذكر أحيانا الفرق الكبير بين رحلة الشيخ ورحلتنا، فالشيخ ركب السفينة في 21 سبتمبر 1895 وتوقفت السفينة في كل من كناكري Conakry بغينيا وسيراليون وكرمبصا Grand Bassam بساحل العاج وCotonou (داومي بنين حاليا) ودوالا Douala (كاميرون) قبل وصوله إلى لبرفيل Libreville ولقي في الرحلة مضايقات كثيرة من قبل طاقم السفينة بينما كان المضيفون في رحلتنا يوزعون علينا ما لذ وطاب من الأطعمة، وقد علق أحدنا بقوله إنه بفضل متاعب الشيخ وفَّر لنا الله هذه الراحة !

وكان حديثنا يتطرق كثيرا إلى الأوضاع السياسية في البلاد فنقارن بين عهد الرئيس السابق عبد الله واد والرئيس الحالي ماكي صال، كما تطرقنا إلى أوضاع المريدية في بعض الأحيان

وأثناء التوقف في أبيجان ونحن في الطائرة سلمت على بعض من أفراد الوفد المتوجه إلى لبرفيل منهم رئيس الوفد الشيخ بشير ابن الشيخ عبد القادر .
وبعد ساعتين وربع ساعة من الطيران وصلنا إلى مطار لبرفيل في الساعة الواحد و٥ دقائق واستقبلنا الشيخ عبد الأحد غيدي فاطمة الذي سبق الوفد بيومين ومعه عدد من الشخصيات المريدية والسلطات الديبلوماسية السنغالية وجلسنا في قاعة الاستقبال لفترة بسبب إجراءات الدخول.

وبعد حوالى ساعة وربع خرجنا من المطار وكان في استقبالنا عدد من أفراد الجالية المريدية وأقلتنا سيارة إلى فندق بانوراما في جو ممطر، وقال لنا سائقنا إن فصل الأمطار في هذه المنطقة يغطي تسعة أشهر من السنة! فقلت في نفسي ما أشد قساوة هذا الطقس على شخص غريب لم يتعود على العيش في غابة كثيفة ممطرة! فاقشعر جلدي حين تخيلتُ نزول شيخنا في مثل هذه البيئة الكئيبة لا رفيق له سوى المولى عز وجل!

ولذلك شعرت بشي من الخجل لما وصلنا إلى الفندق ودخل أحدنا غرفته المعدة له فخرج بعد لحظات قليلة ليقول لنا - ونحن واقفون ننتظر مضيفنا ليقودنا إلى غرفنا - " هذا المكان غير ملائم ، فمكيف الهواء لا يشغل جيدا ! .. شعرت بالخجل لأنني حاولت أن أتخيل الكيفية التي استقبل بها شيخنا باعتباره أسيرا منفيا لم تُوفر له أي وسيلة للراحة فصبر وتجلد.

دخلتُ غرفتي وعقارب الساعة تشير إلى الرابعة صباحا بالتوقيت المحلي، اغتسلت وتوضأت وصليت المغرب والعشاء وفي مجلسي وردت في خاطري الصلاةُ التي صلاها الشيخُ في عرض البحر وهو في طريقه إلى غابون ، وفيها كرامة أكرمه الله بها وهو يضحي بنفسه لأداء فريضة الصلاة في وقتها ! وها أنا أخر الصلاة إلى آخر برهة من الليل ! تساءلتُ كثيرا في سبب تهاوننا الكبير في أداء الصلوات المكتوبة في أوقاتها ولا يزعجنا أن نؤخرها إلى ما شاء الله بل نبرر ذلك أحيانا، وشيخنا كان يضحي بحياته في سبيل أدائها في وقتها !.
المسجد الجامع بمونتانج سانت لبرفيل 

في صباح يوم الجمعة استعددنا للتوجه إلى مونتان سانت Montagne Sainte لأداء صلاة الجمعة في المسجد الجامع الذي بنته الجالية المريدية، ويقع في البقعة التي مكث فيها الشيخ بعد وصوله إلى لبرفيل حوالى ثلاثة أشهر ووقعت له فيها كرامات حكاها كاتب سيرته الشيخ محمد الامين جوب صاحب إرواء النديم وغيره. وبعد أداء صلاة الجمعة زرنا البئر الذي كان الشيخ يستقي منه الماء شرقي المسجد. وقال لي رجل متقدم في السن إنه في هذا المكان ظهر أهل بدر وفيه حاول أعداء الشيخ اغتياله وفشلوا وأشار إلى موضع قائلا: هنا كان جذع الشجرة التي تحتها أطلقت النارعلى الشيخ ولم يصب بأذى بحماية الله تعالى ثم أردف : نحن وجدنا جذ ع الشجرة فخلعناه ونقلناه إلى طوبى فوضعناه بين يدي الشيخ عبد الأحد خليفة الشيخ في ذلك الوقت.

خرجت من المكان وأنا أفكر في أثر الايمان بالله وتوحيده والثقة به وعظم جزائه تعالى وسعة مِنَّته؛ فمَن قارن بين غربة الشيخ ووحشته في هذه المنطقة النائية لا أهل له فيها ولا رفيق وحيدا بين أعداء قُساة غلاظ يسومونه أشد أنواع التعذيب وبين هذه الزحمة اليوم من المصلين والزوار من أحفاده وتلاميذه وأحبائه، فمن قارن بين الحالتين لا يملك إلا أن يزداد بالله ثقة وبصدق وعده إيمانا ؛ فالشيخ جاهد في الله تعالى فتحمل وصبر على الشدائد والبلايا فنصره الله تعالى على أعدائه ورفع شأنه وبارك في حياته. كتب الشيخ عن لبرفيل يقول
      يَسَّر لي المنى لدى لِبَرْوَلِ *** من قاد لي ما غاب عن كل ولي

رجعنا بعد الصلاة إلى الفندق للاستراحة والاستعداد للسفر المبرمج في صباح يوم السبت إلى لمبرن Lambarene وهي المنطقة التي نقل إليها الشيخ بعد مكثه في مايومبا حوالى خمس سنوات وتقع على بعد 232 كلم في جنوب شرق مدينة لبرفيل.
                                 يتبع .....

هناك 9 تعليقات:

  1. ماشاء االه دروس وعبر.
    متا بعة

    ردحذف
  2. رحلة سعيدة
    فالرحلة تصديق لقوله تعالى : : { وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينهمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْد خَوْفهمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ،،،، }

    ردحذف

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...