الأربعاء، 14 فبراير 2024

جامعة الشيخ أحمد بمب UCAB تكرم خريجيها

نظمت اليوم (14 فبراير 2024م) جامعة الشيخ أحمد بمبUCAB برئاسة فضيلة الشيخ مام مور امباكي مرتضى حفلة لتكريم خرجيها في رحاب كلية العلوم الدينية والإنسانية والحضارات بدار السلام اندام.
وقد حضر الحفلة شخصيات دينية مرموقة وقامات فكرية وأكاديمية بارزة، وسلطات سياسية وإدارية رفيعة، وسط أعداد كبيرة من أعضاء الإدارة العامة لمؤسسة الازهر الإسلامية والأساتذة، والإداريين وأولياء الطلبة. وتميزت الحفلة بمشاركة اثنين من مديري التعليم العالي إلى جانب المدير الحالي.

وكانت هذه الحفلة، في حقيقة الأمر، برهانا ساطعا على فعالية الجهود الجبارة الخالصة التي يبذلها مسؤولو الجامعة لتحقيق إنجازات متميزة، وعلى سداد النهج الناجع الذي سلكته منذ نشأتها، تحت القيادة الرشيدة للشيخ مام مور امباكي مرتضى الذي جعل من شعاره التزام الجودة في جميع النواحي.

وبشهادة مدير التعليم العالي، نجحت جامعة الشيخ أحمد بمب في الجمع بين التكوين الأكاديمي الجاد والتكوين الخلقي الراسخ، كما شكلت نموذجا رائعا في التعامل مع سلطات التعليم العالي ومع الطلبة المحوَّلين إليها من قبل الحكومة السنغالية.

وبالجملة، نوَّه جميع الأكاديميين الذين تناولوا الكلمة في الحفل، ومنهم عميد كلية العلوم وتكنولوجيا التربية والتكوين، بالنتائج المبهرة التي تحققها الجامعة، والتي بدأت آثارها تتجلى في سلوك خريجيها.

وقد ألقى الشيخ مام مور امباكي مؤسس الجامعة ورئيس مجلس إدارتها خطابا مهما ينِمُّ عن نظره البعيد ورؤيته الاستراتيجية، تضمَّنَ توجيهات قيمة حول السلوك المطلوب لطالب العلم من حيث الجدية والعزم والتحلي بالروح النقدية والجمع بين النظرية والتطبيق.
وبرؤية هذه النتائج التي بدأت آثارها تتراءى أمام الأعين، يمكن القول بأن خيار الشيخ مام مور بتوفير التكوين المهني لحملة الشهادة الثانوية العربية كان خياراً استراتيجيا وتاريخيا، لأنه يقدم حلا لإشكالية التعليم العربي الإسلامي في السنغال، ويخدم شريحةً كبيرة كانت – منذ استقلال البلاد – مهمشة ومحرومة من المشاركة الفعالة في عملية تنمية البلاد بسبب الحاجز اللغوي الذي نصب أمامها.

من المعروف أن الوصول إلى التعليم العالي يمثِّل مشكلةً حقيقية أمام حملة الشهادة الثانوية، سواء أكانت فرنسية أم عربية، ولكن أصحاب الشهادة العربية أقل حظا بكثير من حملة الشهادات الفرنسية بسبب هيمنة النظام الفرنكوفوني السائد في البلاد.
إن فتح جامعة الشيخ أحمد بمب الباب نحو التخصصات المهنية المختلفة أمام حملة الشهادات العربية مع اتخاذها تدابير ناجعة لرفع مستوياتهم في اللغة الفرنسية ينطوي – في نظري - على رهانات في غاية الأهمية؛ فهو يزيل الحاجز اللغوي الذي حرم الكثير من شبابنا العباقرة من استغلال إمكانياتهم العقلية، كما يسد ثغرة في النظام التعليمي السنغالي جعلته ينتج كوادر عالية المستوى، ولكنها مفتقرة إلى شحنة أخلاقية تهدي سلوكها.
وهذا الخيار هو الوسيلة الأمثل لبناء جيل واع ومسؤول يتحلى بالقيم الإسلامية الرفيعة ويمتلك الكفاءات العلمية والتقنية اللازمة لحماية الدين وبناء الوطن، وهذا الجيل هو ما تحتاج إليها السنغال.

نتمنى أن تحذو جامعاتنا الإسلامية جذو جامعة الشيخ أحمد بمب في هذا الخيار الاستراتيجي التاريخي الفعال.
حفظ الله الشيخ مام مور ورضي عن والده المجاهد الأكبر وسدد خطى جميع أفراد الأسرة الأزهرية.

الأربعاء، 31 يناير 2024

الشيخ عبد الله بن بيه يرسم طريقة للنهوض بالتعليم العتيق في إفريقيا

بمناسبة افتتاح الملتقى الرابع للمؤتمر الإفريقي لتعزيز السلم، المنعقد في العاصمة الموريتانية نواكشوط، في يناير 2024م، تحت عنوان "التعليم العتيق في إفريقيا العلم والسلم"، ألقى العلامة الشيخُ عبدُ الله بن بيَّه – حفظه الله – كلمةً وجيزة ومهمَّة انطوت على رؤيةٍ استراتيجيةٍ واضحةِ المعالم للنهوض بالتعليم العتيق، ويمكن اعتمادا عليها وضع برنامج متكامل لتنميته واستعادة دوره التاريخي في التربية والتزكية، وفي بناء مجتمعات يسودها الوئام والانسجام والسلام.

فقد استهلَّ الشيخ كلمته بتحديد السياق التاريخي لانتشار التعليم العتيق في القارة الإفريقية مع إماطة اللثام عن مزايا مؤسساتها مثل الحرية، والمجانية، والمساواة، والشمولية، واستيعاب القبائل والأعراق المختلفة، والتربية على الأخلاق والفضائل.

وبعد هذه اللفتة التاريخية تناول العلامةُ الشيخ عبد الله السياقَ الراهن للتعليم العتيق بتشخيص أوضاعه تشخيصا دقيقا بيَّن انحساره في ظل تغييرٍ بيئته الحاضنة، واختلالٍ في موارده الاقتصادية وعزوف نسبة من الطلبة عنه تجاوبا مع سوق العمل الذي يتطلب تكوينا متوجا بشهادات عصرية للانخراط فيه.

وعلى هذا التشخيص الدقيق، بنى الشيخ نظرته المستقبلية للتعليم العتيق من خلال مقترحات عملية حول المورد البشري والمورد المالي والمأسسة والتوظيف؛ وهي دعائم ثلاثة يجب أن ترتكز علها أي سياسة ترمي إلى النهوض بالتعليم العتيق.

ففي المورد البشري أبرز الشيخ ضرورة التأهيل التربوي الحديث المبني على دراسة استقصائية تحدد الاحتياجات التطويرية والتدريبية للأساتذة في إطار التعاون مع الجامعات والجهات المختصة.

وفيما يخص المورد المالي، أشار الشيخ إلى موردين مهمين: الأوقاف التي تعتبر أهم دعامة للجامعات العريقة في العالم، والزكوات، باعتبار المؤسسات التعليمية داخلةً في سهم "في سبيل الله".

وفيما يتعلق بالإطار المؤسساتي وعملية التوظيف نبَّه الشيخُ إلى ضرورة التوصل إلى صيغ قانونية موائمة تؤطر عملَ مؤسسات التعليم العتيق، وتحفظ خصوصيتها، وتفتح لها فرص الاستفادة من تمويل الدولة، كما تيسر لخريجيه عملية الانخراط في سوق العمل.

فهذه بعض اللمحات البارزة من كلمة الشيخ عبد الله القيمة التي ترسم خارطة مهمة لوضع سياسة إصلاحية للتعليم العتيق، تستحق أن تدرسها بعمق الدوائرُ المعنية بالشؤون التربوية في العالم الإسلامي عموما وفي إفريقيا خصوصا.





الثلاثاء، 30 يناير 2024

الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه ...وكتاب السنن الكبرى

إن علاقة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه بالكتب والمراجع العلمية واهتمامَه بها، تعلما وتعليما وقراءة وتأليفا، وتسخيرَها لإمكاناتٍ ضخمة في جمعها واقتنائها، بالشراء والاستنساخ، أصبحت حديثَ الركبان، ويشهد لذلك ما خلَّفه رضي الله عنه من كتب نفيسةٍ ونادرةٍ في فنون معرفية مختلفة.

ولكن القصة التي سمعتها البارحة (29 يناير 2024م) من سرين شيخ أست فاي Cheikh Astou Faye Mbacké ابن الشيخ محمد الحبيب بن الشيخ إبراهيم فاط، تثير الدهشة والإعجاب، وتَكشف مدى اعتناء الشيخ الخديم باقتناء الكتب، وبشكل خاص كتب الحديث النبوي الشريف، كما تُظهر مدى حرص الشيخ محمد الفاضل ابن الشيخ الخديم ومريده الصادق على تحقيق كل ما كان الشيخ الوالد يرغب في تحقيقه، كما تجلى في رحلته الحج وتكملته لبناء المسجد الجامع في طوبى، وتأسيسه المجلس التعليمي العريق "دار المعارف" بداخله.

فقد حكى سرين شيخ أست فاي Cheikh Astou Faye Mbacké أن الشيخ محمد الفاضل رضي الله عنه أرسله إلى مكة المكرمة سنة 1966م وتحمل تكاليف سفره، وقال له، لما تهيأ للسفر : "لا أُرسلكَ هذه المرة لأداء فريضة الحج، بل أرسلك خصيصا لكي تشتري لي كتاب "السنن الكبرى"[1] ، ودافعي في هذه المهمة أن الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه كان قد جهّز أحد مريديه الموريتانيين إلى مكة ليشتري له هذا الكتاب، ولكنه لم ينجح في العثور عليه، وعاد دون شرائه، وكنتُ على علم بذلك، فأردت تحقيق تلك الرغبة للشيخ الوالد !

ما استوقفني في هذه القصة هو أنها تدل على علو همة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه المنقطع النظير في تحصيل المراجع العلمية وبشكل خاص كتب الأحاديث ، كما تشهد للعهد الذي قطعه على نفسه بتجديد السنة النبوية الشريفة ، وإحيائها، وبيانها ،كما في قوله رضي الله عنه:
للمصطفى نويت ما يجدد       -        سنته الغراء وإني أحمد
وفي قوله
نظافته كلي من اللغو طهَّرت    -     وسنتَه إن شاء ربي أُبين

وهذه القصة تؤيِّد أيضا قولَ مريد الشيخ العلامة محمد عبد الله العلوي الشنقيطي (ت 1954م): " ومن علو همته وفتوَّته أنه جمع كتب الأئمة الأربعة - عليهم رضوان الله تعالى - عنده، وهذه ما فعلها أحد قبله من علماء المغرب ولا من ملوكه، وما انتبه واحد منهم لهذه الخصلة الحميدة" (النفحات المسكية، ص 152). وقد أرسله الشيخ رضي الله تعالى عنه إلى مصر فرحل إليها وجلب له هذه الكتب، كما حكاه في كتابه النفحات.

وأخيراً يتجلى هذا الاهتمام بالكتب أن أول مبنى شيد بالإسمنت في طوبى كان مُعَدَّا ليكون مكتبة، بناه أحد مريدي الشيخ بأمر منه، وهو الشيخ محمد اندومبي امباكي Cheikh Mouhammdou Ndoumbé Mbacké . وما زال المبنى قائما في دار القدوس، يأوي مدرسة عريقة تخرج فيها العديد من العلماء الكبار.

وهكذا، لا غرو أن يوجد في الآن إحدى أهم المكتبات الإسلامية في إفريقية الغربية، وهي "مكتبة الشيخ الخديم"، ومكتبة فريدة من نوعها مخصصة لكتابات الشيخ الخديم (كَرْ قصيدي Keur Khassida yi) ومشروع لإحدى أكبر المكتبات الجامعية في إفريقية بجامعة الشيخ أحمد الخديم إلى جانب مكتبات خاصة أخرى.

وخلاصة القول أن هذا الاعتناء بالكتب والمراجع من قبل الشيخ الخديم رضي الله عنه يدعونا إلى مزيد من الاهتمام بالقراءة والدراسة والبحث والتأليف، وبالجملة، الاهتمام  بإحياء العلوم. 
                                                                 د. سام بوسو عبد الرحمن

[1] ظهر من كلام الشيخ أست فاي أن الكتاب هو السنن الكبرى للنساء، لأنه قال أثناء الكلام أن البائع وضعه في كيس وبلغ عدد مجلداته اثني عشر مجلدا.

الخميس، 21 ديسمبر 2023

وأقيموا الشهادة لله!

من النادر أن نكتب شهادةً لحي يرزق، ولكنني هذه المرة أود أن أخالف هذا العرف السائد وأسجل شهادة للتاريخ، بعد إذاعة الخبر السارّ المتعلق بإنشاء إدارة وطنية للمدارس القرآنية في وزارة التربية الوطنية، وإسنادها إلى زميلنا المفتش بابكر صامب.

إن قرارَ رئيس الجمهورية تحويلَ مفتشية المدارس القرآنية إلى إدارة وطنية لم يأت، في الحقيقة، من فراغ؛ فوراء هذا القرار جهودٌ جبارة بذلها مخلصون عديدون متفانون في خدمة التعليم القرآني في البلاد، منذ أكثر من عقدين من الزمن.
فقد مرّت بعدة محطات تلك المحاولاتُ والمساعي التي كانت ترمي إلى تعزيز مكانة التعليم القرآني على المستوى المؤسساتي وإدماجه في النظام التربوي الرسمي، وظهرت مبادرات عدة في الساحة من جهات رسمية، ومن منظمات غير حكومية، ومن مسؤولي مدارس قرآنية ومحبين للقرآن الكريم.
ومن أبرز هذه البرامج والمبادرات في السنوات الأخيرة إقامةُ مشروع لدعم عملية تحديث المدارس القرآنية PAMOD وإنشاءُ مفتشيةٍ للمدارس القرآنية داخل وزارة التربية.

ولكن الفضل في اتخاذ هذا القرار التاريخي بإنشاء إدارة وطنية يرجع بشكل كبير إلى المفتش السيد بابكر صمب وفريق عمله.
فقد نجح السيد بابكر وأعوانه في بلورة رؤية واضحة لسياسة تطوير المدارس القرآنية ورسم استراتجيات فعالة لتنفيذ هذه السياسة، وتمكن بفضل ما يتمتع به من حكمة ورزانة ودماثة وانفتاح من تعبئة الكفاءات المختلفة اللازمة لتسيير مشاريع المفتشية بشكل جيد. وقد أسعفته - بحمد الله تعالى - شخصيته المتوازنة والمتواضعة ومستواه الأكاديمي والمهني في كسر الحواجز اللغوية والثقافية التي تعرقل العملَ الجماعي في كثير من مشاريعنا المهمة.

حقيقةً، كانت مفتشية المدارس على مستوى التحديات في الوقت الذي كان التعليم القرآني ومدارسه يعاني مشكلات في الداخل، ويواجه هجمات من الخارج، وأصبحت كل محاولة للإصلاح أو للدفاع عرضة للاتهام، أظهرت بحنكة مديرها قدرةً فائقة في المشي على طريق وعر مع تجنب الكثير من المزالق الطائفية والسياسية والأيديولوجية.
وكان النجاح الباهر في تنظيم أول مسابقة دولية لحفظ القرآن الكريم في السنغال في الأسبوع الماضي تتويجاً لجهود المفتشية. ومن هنا نرى أن تعيين الأخ المفتش بابكر مديراً لإدارة المدارس القرآنية لم يكن اعتباطا ولا تحابيا وإنما استحق هذا المنصب بكل جدارة.

وهذا التعيين، من ناحية أخرى، وسام على صدر جميع المستعربين؛ فقد برهن الأخ بابكر وغيره من زملائنا أصحاب المسؤوليات العليا أن على الدولة أن تستفيد أكثر من كفاءات المستعربين في تسيير شؤون البلاد بفضل ما يتمتعون به من مواصفات يحتاج إليها المجتمع.
ونحن إذ ندوِّن هذه الشهادة لا يعزب عن بالنا أن المسؤولية جسيمة، وأن المهمة ثقيلة، إلا أننا متفائلون كل التفاؤل وواثقون كل الثقة في عون الله تعالى.

نسال الله تعالى أن يوفق أخانا بابكر ويوفق كلَّ من يعمل لصالح نظامنا التربوي عموما والتعليم العربي الإسلامي خصوصاً.

الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

وداعا أيها الصديق الوفي!

كنت أبحثُ عن كلمات تعبر عن شعوري عند انتشار النبأ المفزع والمفجع، وكأنها تفر مني ولا تريد أن تسعفني، بقيت لحظات لا أستطيع أن أصدق أن صديقي وزميلي قد فارق الحياة، وهو في أوج العطاء التربوي، وافته المنية في ميدان الجهاد، والسلاح بيده، كان يُلقي درساً لم تكن حصته قد حانت، كان يقدم حصة الجمعة في مساء الثلاثاء، كأنه في سباقٍ مع الزمن ليؤدي ما عليه.
لم يكن المرحوم بإذن الله تعالى الدكتور مصطفى جوم مجرد زميل لي، بل كان صديقا وحبيبا، كنتُ أتلمس في حديثه معي أمارات المحبة والاحترام.
رافقني لأكثر من عشر سنوات في المفتشية الأكاديمية بتياس، وكان خير رفيق وخير ناصح وخير مستشار. وكان يخفف عني الكثير من المهام.
لا أعرف أكثر منه دماثة وأحسن منه خلقا، ومن أبرز أخلاقه الإيثار والتواضع والحلم.
كان نموذجا في الإخلاص في العمل والتفاني في الخدمة، كان يحمل معه همَّ التعليم العربي الإسلامي أينما حل. كان مثالا في علو الهمة والجدية والمثابرة. كان من فرسان الجهاد التربوي أينما أعلن، ولم يكن التحزُّب يجد إليه سبيلا، وكان قياديا شجاعا جريئا في مواقفه ووفيا لمبادئه.
لا نملك إلا أن نقول : "إنا لله وإنا إليه راجعون" سائلين الله سبحانه وتعالى أن يرحمه رحمةً واسعة ويسكنه في الفردوس الأعلى ويلهم أهله من أقاربه وزملائه الصبر والسلوان.

الخميس، 7 ديسمبر 2023

مقصد الترك أومفهوم البدعة في نظر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه


عُرف العلامةُ الأصولي المحقق الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله تعالى- بمشروعه الفكري التجديدي، وهو مشروع يقوم على أساس البحث عن الحلول الناجعة لما يعانيه العالم الإسلامي من الأزمات والمشكلات التي تعرقل مسيرتها وتثبط همَّتها في النهوض بقيادة البشرية على ضوء القيم الإسلامية السمحة.

ويُعنى الشيخُ في كتاباته بإبراز مكامِن الزلَل الفكري المُؤدي في كثير من الأحيان إلى خلافاتٍ وتجاذباتٍ، بل إلى تبديع وتفسيق أو تكفير طرف لطرف آخر. والشيخ لمعرفته بخطورة الفهم القاصر وآثاره السلبية في العيش المشترك، والانسجام المجتمعي، والتناسق الفكري، بين المسلمين، نراه يقف مع بعض القضايا الشائكة وقفة تحليلية؛ يحرر محل الخلاف ومناط الحكم فيها، ويعرض الآراء الفقهية بكل إنصاف، ويناقش الأدلة مناقشة دقيقة، يقيد شوراد المسألة لتشكيل صورة واضحة عن القضية بحيث تصبح الأمور في أحجامها الحقيقية، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.

ومن هذه المسائل التي عُني الشيخ بها عناية فائقة، وغَفَل عنها الكثير، “مقصدُ الترك” الذي يسميها بـ"بدعة الترك”، وقد عالجها في كتابه الماتع القيم "مشاهد من المقاصد"[1] معالجة عميقة تكشف عن هذا الهم الإصلاحي الذي يحمله من أجل تفكيك وصياغة المفاهيم الرائجة الملتبسة لدى كثير من الناس والتي تتسبب في تعميق الخلافات بين المسلمين.

فقد بدأ الشيخ بتعريف هذا المفهوم، ويعني "فعل أمر في محلٍ تُرك من قبل الشارع" قبل أن يورد مواقف العلماء تجاهه؛ فهذه المسألة - حسب رأيه الثاقب- مسألة اجتهادية دقيقة، انقسم حولها العلماءُ على مذهبين: مذهب لا يعتبرها دليلا إلا على مجرد رفع الحرج، لا سيما فيما له أصل جملي، فيكون المتروك معروضا على عموم الأدلة الأخرى، ومذهب يرتب عليها حكم الكراهة أو التحريم.

فأصحاب المذهب الأول هم الذين يُقسِّمون البدعةَ إلى خمسة أقسام وفق الأحكام الشرعية الخمسة، وهم الشافعية ومتأخرو المالكية والإمام النووي والإمام ابن عبد السلام والقرافي وغيرهم، ويرون أن الترك ليس دليلا لأن الشارع يقول " وما نهيتكم عنه فانتهوا" ولم يقل: وما تركت. ورأي هؤلاء مبني على أن البدعة حقيقةٌ فيما لم يُفعل في الصدر الأول حسنا كان أو قبيحا، وأن جميع ما ورد في البدعة من نحو قوله عليه السلام "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وأن العبادات والعادات متساوية في لحوق البدع.

وأصحاب المذهب الثاني يرون أن ترك الشارع لفعل أو لكيفية دليل على قصده عدمَ الإتيان بالفعل أو بالكيفية، وأن إقدام المكلَّف على فعل في محل الترك ابتداعٌ في الشرع، وأبرزهم ابن تيمية والشاطبي وابن القيم. ويذهب هذا الفريق إلى أن الترك من السنة.

لم يأل العلامة الشيخ عبد الله جهداً في إيراد الأدلة ومناقشتها، وفي ذكر عدد من المسائل المختلف فيها بناء على هذا الأصل "مقصد الترك"، ومنها على سبيل المثال: الدعاء بعد الصلاة جماعة، وقراءة القرآن جماعة في المسجد بصوت واحد، والتوسل بالأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهنا نلاحظ أن الشيخ يميل إلى تأييد القول بأن “الترك لا يدلُّ على الحظر ولا على الكراهة، بل إنه يدل على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه هو الأولى، لكن لا إنكار في فعل ما تركه”، وقد ساق عدةَ أوجهٍ يذكرها أصحابُ هذا الرأي ومنها:

← قد يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدل إلا على رفع الحرج، مثل تركه أكل الضب وأكل طعام فيه ثوم؛

← قد يترك صلى الله عليه وسلم بعض المستحبات خوفا من أن تفرض على أمته؛ كما في قول عائشة رضي الله عنها: " وما سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الصحى قط وإني لأسبحها”.

← قد يترك عليه السلام أمراً لكونه خلاف الأولى، ويفعل المتروك في أوقات نادرة لبيان الجواز، مثل تنشيف أعضاء الوضوء بالمنشفة.

← نجد الصحابة يعملون بعض القربات في مقام الترك دون سؤال، مثل مواظبة أحد الأنصار على قراءة سورة الإخلاص في صلاته. وفي الحج ثبت أن بعض الصحابة كان يلبي تلبية فيها زيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل، وزيادة ابن عمر: والخير بيديك والرغباء إليك.

ويزيد الشيخ- جزاه الله خيرا- أن القول بكون الترك من السنة يخالف تأكيدَ العلماء حصرَ الأصوليين السنةَ التشريعية على القول والفعل والتقرير، كما ورد في بداية المجتهد “الشريعة تتلقى من ثلاث طرق هي اللفظ والفعل والإقرار”.

وفي معرض ذكر تلك الأوجه يُشير الشيخ إلى إشكالٍ يتعلق بفعل السلف حين يُنقل عن بعضهم دون بعض، فهل يكفي ذلك لنفي صفة البدعة عنه عند الفريق الأول أم لا؟

ومن أمثلة ذلك: تتبُّع عبد الله بن عمر لآثار النبي عليه السلام للتبرُّك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، واستسقاء شخص (إما صحابي أو تابعي) عند القبري النبوي بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ"استسق لنا".

فمن بين الفريق الأول من يعتبر ذلك بدعة فاحشة مع ورود أثر فيه، وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله وفي استعمال المجاز في الإسناد".

هكذا استعرضنا بكل إيجاز كيف عالج الشيخ هذا الموضوع بموضوعية وإنصاف، ويمكن أن نلمس من خلال معالجته للمسألة واهتمامه بها هذا الاهتمامَ البالغ، في سياق حديثه عن المقاصد الشرعية، نزعتَه إلى تجديد المفاهيم، ونفض ما علق عليها من غبار التعصب الفكري المؤدي إلى تبديع المخالف أو تكفيره دون أساس علمي قوي. فهذه المعالجة الأصولية الدقيقة ليست ترفا فكريا إنما تنصب في صلب مشروع الشيخ الرامي إلى دراسة المفاهيم التي يُساء فهمُها وتوظيفُها ، فتصبح ذريعةً إلى تشتيت وحدة الأمة؛ ومن هذه المفاهيم الرائجة مفهوم البدعة، وقلَّما اعتني بها العلماء في الدراسات الأصولية والفقهية مع كونه من أبرز ما يُغذي الخلافات والسجالات بين الصوفية والسلفية في الوقت الراهن.
                                                                               د. سام بوسو عبد الرحمن

الأحد، 12 نوفمبر 2023

11 نوفمبر 1902م : دروس من عودة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه من غيبته البحرية

بعد أكثر من سبع سنوات في الغربة، عاد الشيخ أحمد بمب رضي الله تعالى عنه إلى السنغال في يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1902م، ونزل في ميناء دكار، بعد رحلة بحرية دامت 12 يوما، حيث غادرت السفينة التي أقلَّه مدينةَ ليبرفيل يوم الخميس 30 أكتوبر 1902م، ومرت بداومي، وغران بصام، وكوناكري قبل أن تصل إلى دكار.
وكانت هذه العودةُ حديثا تاريخيا تحمل دلالاتٍ كثيرةً؛ ففي منتصف القرن التاسعَ عشر الميلادي ظهر الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه في الساحة الدينية حاملا رسالة ربانية وقائما بمهمة تجديدية، وكان غرب إفريقيا في هذا الظرف يتعرض لحملة استعمارية شرسة كانت ترمي إلى استغلال البلاد وطمسِ هوية السكان واستعبادِهم.
وكان الجهاد الذي رفعه الشيخ يمثل مقاومةً تهدد مشروعَ المحتل الفرنسي بالإفشال، لأنه رضي الله عنه كان يغرس في نفوس أتباعه التوحيدَ لله تعالى، والتحررَّ من ربقة أي سلطة غير سلطته سبحانه وتعالى، وينمي فيهم روحَ العمل والاعتمادِ على الذات والثقةِ بالنفس.
وعلى هذا الأساس قررت سلطات الاحتلال إخراجَه من وطنه ومن بين أهله وأتباعه بتلفيق تُهمٍ باطلةٍ من خلال محاكمةٍ هزَلية في الخامس من سبتمبر 1895م في مدينة اندر عاصمة المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا.
وهكذا، غُرِّب الشيخ رضي الله تعالى إلى جزر الغابون النائية، فقضى في هذه الغربة سبع سنوات وبضعةَ أشهر متحملا ما لا يمكن تصوره من أنواع التعذيب والاضطهاد، ولكن هذه المعاناة لم تضعضع من عزمه وهمته في عبادة الله تعالى وخدمة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كانت الغربةُ نعمةً في طيِّ نقمةٍ ومنحةٍ في صورة محنةٍ.
وكانت عودتُه بسلامٍ من هذه الغيبة انتصاراً للإسلام وهزيمةً لمشروع المحتل في وأد دعوته وتشتيت مريديه، ورمزا للشجاعة والمثابرة؛ وهي تنطوي في حقيقة الأمر على دروس بليغة، منها:
أولا: أن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف، وقد وعد بنصر المومنين في قوله تعالى "وكان حقا علينا نصر المومنين" ولن يخذلهم أمام الكافرين كما في قوله تعالى "ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا". وهذا الوعد الصادق يفرض على المسلم أن يراجع إيمانه ويثق بربه ليحظى بنصرته وحمايته.
ثانيا: أن المعركة بين الحق والباطل مستمرة في الحياة، ولكن الباطل مهما قويت سطوته، لا يمكن أن يصمد أمام الحق، كما قال الشيخ الخديم :
الحق ثابتُ وأما الباطل           وإن علا فساهق وسافل
وإذا أدرك صاحب الحق المتمسكُ بمبادئه هذه الحقيقة يهون عليه ما سيعانيه من أهل الباطل، فيتحلى بالصبر والمثابرة، ويضع أهدافه نصب عينيه.

ثالثا: أن جهاد الشيخ رضي الله تعالى عنه بالوسائل السلمية (العلوم والتقى) كان أخطر على أعداء الإسلام المحتلّين من مواجهتهم بالأسلحة التقليدية؛ فقد قاومهم لوحده، وكان الانتصار لدين الإسلام، وقد تنبَّه لهذا البُعدِ العلامةُ الشيخ سعد أبيه، فهنَّأ الإسلام بعودته قائلا:
هنيئاً لذا الدينِ الغريب الذي غدا        يتيهُ سرورا منكم وافتخارا
رابعا: أن إعلان الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه عن عفوه الشامل عمن ظلموه واضطهدوه بعد عودته دليلٌ واضح على كونه رمزاً للسلام والسماحة؛ فقد قدَّم درسا بليغا للبشرية بنجاعة المنهج السلمي الذي أثبت فعاليتَه أمام غطرسة السلطات الاحتلالية، وحافظ على دعوة الشيخ وتربته ومشروعه بشكل عام.

فهذا طرفٌ من الدروس التي يمكن استخلاصُها من هذا الحدث المتميز في التاريخ الإسلامي، وهو حدثٌ يجسِّد روحَ الإيمان والثقةِ به والتفاني في خدمة الإسلام، ويرمز إلى نجاعة الجهاد السلمي الذي خاضه الشيخ رضي الله تعالى عنه، وإلى فشل المشروع الاستعماري في وأد دعوته، كما تحمِلُ دلالاتٍ أخرى عديدةً تستحق الدراسةَ والتأمَّل.
د. سام بوسو عبد الرحمن

مقالات ذات صلة

دراسة حول الأبعاد الدينية والاجتماعية للمغال




جامعة الشيخ أحمد بمب UCAB تكرم خريجيها

نظمت اليوم (14 فبراير 2024م) جامعة الشيخ أحمد بمبUCAB برئاسة فضيلة الشيخ مام مور امباكي مرتضى حفلة لتكريم خرجيها في رحاب كلية العلوم الدينية...