الخميس، 20 نوفمبر 2008

كيف يخرج المسلم من الأزمة الروحية والخلقية؟

محاضرة ألقيتُها في جامعة غاستون برجي
بمدينة سانت لويس السنغالية
سام بوسو عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ووضع فيه قدرات جسمية وعقلية وروحية، وجعل له إرادة ليتمكن من تسخير هذه القدرات لتحقيق سعادة دنيوية وأخروية، ورسم له الطريق بواسطة الرسل عليهم السلام والكتب المنزلة " ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"
و نظمت هذه الرسالاتُ، بتوجيهات وتعليمات إلهية، علاقات الإنسان بربه وبنفسه وببني جنسه، وبمراعاة هذه التوجيهات والقوانين الأخلاقية تتحقق للبشر التوازن النفسي والروحي والاجتماعي.
وقد يتحكم في البشر أهواء نفسية فتحرفه عن الجادة وتحول دون مراعاة هذه المبادئ فينزلق في هوة عميقة من الأزمات
وقد شهد العالم ومازال أزمات عديدة ومختلفة في الحدة والتعقيد، ولم تخل فترة من فترات الأزمات ممن يتصدون لها من فلاسفة ومفكرين أو دعاة مصلحين انطلاقا من معتقداتهم وخلفياتهم الفكرية.
وعالمُنا المعاصر، نظرا لطبيعته المعقدة، يشهد أشد الأزمات وأكثرها تعقيدا وأوسعها رقعة، فلم يكد مجتمع من المجتمعات يسلم من براثنها.
و التساؤل عن"السبل التي يمكن أن يسلكها المسلم أمام هذه الأزمة الخلقية والروحية في عالم يتسم بالفراغ" يأتي بالفعل في محله وفي وقته.
فما أجدر بالشباب المثقفين المومنين بالقيم الإسلامية أن يتناقشوا مثل هذه القضاياالحاسمة الملحة. فهؤلاء هم المستقبل وعليهم يتوقف مصير الأمة.

وسنحاول من خلال هذا العرض الموجز
  1. أن نرسم صورة تعكس بشكل مقتضب مظاهر الأزمة الروحية والخلقية في عالم اليوم،
  2. أن نتطرق إلى الأرضية الفلسفية والفكرية التي أنبتت بذور هذه الأزمة،
  3. أن نتعرض لما يمكن أن يكون مسلكا للنجاة من خضم هذه الأزمة ....
لعلنا نخرج من هذه القاعة بتصور أكثر وضوحا قد يساهم في توجيه سلوكنا للخروج من المأزق الذي يشهده العالم.

I.مظاهر الأزمة الروحية والخلقية

إن المجتمع الإنساني يتكون من أفراد وجماعات. ونواة المجتمع الأولى هي الأسرة، وفوقها مؤسسات أوسع من سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية.
وفي جميع هذه المستويات تبرز مؤشرات الأزمتين الروحية والخلقية.
على المستوى الفردي نجد:
  • تقديس الثروة المالية بشكل قد أدى بكثير من الناس إلى استعمال جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة للحصول على الأموال الطائلة ويشهد لذلك تفشي ظاهرة القمار والدعارة وتجارة المخدرات وبيع الأطفال والجرائم المسلحة فالإحصائيات حول هذه الظواهر مروعة.

وفي أمريكا على سبيل المثال"يذكر ألين بيور وإيميل بيريز في كتابهما (أمريكا: العنف والجريمة) أن معدل الجريمة الأمريكية - مثلاً - طبقاً لسنة 1998م بلغ ما يلي:
1وقوع جريمة سرقة عادية كل 3 ثوان.
2وجريمة سطو كل 14 ثانية.
3وجريمة سرقة سيارة كل 25 ثانية.
4وجريمة سرقة مقرونة بالعنف كل 60 ثانية.
5وجريمة اغتصاب كل 6 دقائق.
6وجريمة قتل كل 31 دقيقة.

ويقدر إجمالي كلفة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة (عدا المخدرات) بأكثر من 700 بليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يجاوز إجمالي الدخل السنوي الفردي في نحو 120 دولة في العالم. "
ويقدر عدد المتعاطين للمخدرات بنحو أكثر من 12 مليون شخص في أمريكا وحدها. 1

  • نزعة فردية متزايدة بدأت تُغيِّب قيما اجتماعية عديدة كاحترام الآباء والمعلمين وكبار السن ومراعاة آداب التعامل مع الآخرين

وعلى المستوى الأسري نشهد :
  • تحولا في النسيج القيمي للأسرة فقد ظهرت تشكيلات عائلية متنوعة وغريبة كالأسرة المثلية ( أنثى/أنثى وذكر/ذكر). والشواذ حصلوا في عديد من الدول على اعتراف رسمي ومما نتج عن انهيار قيمة الأسرة كثرة الأطفال غير الشرعيين وتفشي الأمراض المعضلة كالإيدز وكثرة حالات الطلاق وغير ذلك. ففي فرنسا مثلا بلغت نسبة الولادة دون الزواج 40% من مجمل مواليد 1997.
  • والأخطر من ذلك أن الشذوذ تحول من انحراف إلى" خيار" والدعارة من ظاهرة لا أخلاقية إلى حالة قانونية.

على مستوى الحياة السياسية نلاحظ:
  • تفشي الفساد والرشوة على جميع القطاعات الحكومية في جميع الدول تقريبا.
  • تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة العامة لدى رجال السياسة.
  • سلوكيات غير أخلاقية: وعود كاذبة تبادل الشتائم والاتهامات.

على مستوى الحياة الاقتصادية تسود ممارسات لا أخلاقية مثل:
  • أعمال الغش من أجل تحقيق أرباح
  • وأعمال التجسس والتزوير في البضائع
  • التحايل على حقوق العاملين

على مستوى الحياة الدينية تبرز ظاهرة
  • النفاق والشكلية لدي كثير من المتدينين
  • حصر التدين على هامش الحياة العامة
  • عمليات التشهير والتشنيع بالمراجع والمقدسات الدينية
  • تفشي الشعوذة والتحايل

وهذه الظواهر تعكس الأزمة الخلقية والروحية التي يعيشها العالم، وبالتأمل نجد أن هذه الأزمة تنبت على أرضية فلسفية وفكرية جعلتها متنامية ومنتشرة في جميع مناطق العالم.


II.الأرضية الفلسفية والفكرية للأزمة الروحية والخلقية

الأزمة الروحية والخلقية لم تتولد اعتباطا أو عفويا وإنما نبتت في أرضية فلسفية خصبة وتوجهات فكرية فرضت سيطرتها على مناطق عدة في العالم بوسائل وطرق متعددة ومختلفة.
وستتضح لنا جذور الأزمة إذا وقفنا على هذه التيارات الفلسفية التي غيرت أنماطا الحياة في الغرب وشكلتها ثم أفرزت المشكلات السلوكية التي تعرضنا لها، ولذا نشير بدون الخوض في التفاصيل إلى الفلسفة المادية والفردية والبراغماتية. وهذه هي أهم التيارات الفلسفية وأقواها في عالمنا المعاصر.

1-المادية.
فهذه الفلسفة تستبعد وجود أي مبدأ روحي وتعتبر أن المادة هي الحقيقة الوحيدة في الوجود. فالماديون يرون أن الإنسان فوق قيمه لأنه وضعها.
وتؤدي هذه الفلسفة إلى الارتباط بالأشياء والممتلكات المادية وتقديم قيمة الثروة المالية على غيرها.
في عالم الصيرورة المادية لا توجد قيم تتجاوز سطح المادة وكل شيء خاضع للقانون المادي.

2- الفردية.

الفردية تيار فلسفي وسياسي يضع حقوق الفرد ومصالحه وقيمه فوق حقوق الجماعة ومصالحها وقيمها وقد وصل بعض المتطرفين في النزعة الفردية على رفض جميع أنواع السلطة وخاصة الحكومية والدينية ورفعوا الشعار الذي صاغه جان غراف 1854 ـ 1939(Jean Grave) وهو: لا رب ولا سيد فلا يتبع أحد سوى إرادته« Ni Dieu, ni maître, chacun n’obéit qu’à sa propre volonté2 فالحرية الفردية هي المقدمة فوق جميع الاعتبارات3

3- البراغماتية.

تعتبر البراغماتية أهم المدارس الفلسفية التي نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية في القرن التاسع عشر، وتتميز بالإصرار على النتائج والمنفعة كمكونات أساسية للحقيقة، كما ترفض مفهوم الحقيقة والعقلانية والأخلاق، وتعارض كل الأفكار التي ليست لها تطبيقات عملية وبصفة خاصة ما يتعلق بالغيبيات. فالحقيقة بالنسبة إليهم أمر نسبي.

هذه الفلسفات التي أشرنا إليها هي التي توجه حياة الغالبية العظمى من الشعوب الغربية، وهي كما نرى تتعارض بشكل كبير مع الرؤى والمبادئ الإسلامية ومع ذلك قد تغلغلت داخل الشعوب المسلمة وانتقلت عدواها إلى البلاد الإسلامية.
وأصبحت النظم التربوية في بلاد المسلمين تتبنى نظريات تربوية منبثقة من هذه الفلسفات مع ما تترتب على ذلك من آثار في سلوك النشء.
وليس من الغرابة إذن أن يواجه المسلمون نفس المشاكل والأزمات التي يواجهها الغرب. وسؤالنا الآن : ما هو المخرج من هذه الأزمة؟


III.كيفية الخروج من هذه الأزمة

قبل أن أبدي تصوري لهذا الموضوع أود أن أشير إلى أن هذه القضية ليست قضية سهلة فقد كانت موضع اهتمام و جهود المصلحين والمربين، وما نشاهدها في العالم الإسلامي من حركات ودعوات إصلاحية في القرون الأخيرة إنما هي استجابة للأزمة الروحية والخلقية، ويمكن أن نصنف هذه الحركات والدعوات إلى ثلاث اتجاهات أو مدارس كبرى :

المدرسة الصوفية: وهي تتجه نحو تزكية النفس وتربية الروح وتصفية القلب من الأمراض سعيا نحو الوصول إلى المعرفة بالله؛ وتوجد طرق صوفية عديدة في مناطق العالم المختلفة.
المدرسة السلفية: وهي تركز جهودها على جانب العقيدة ومحاربة ما تسميها البدع والمحدثات وتميل إلى التمسك بحرفية النصوص؛ ولا يهتم أصحاب هذه المدرسة بالسياسة ولا بالسلطة ومن روادها الشيخ محمد عبد الوهاب وتلاميذه. وقد تأثر بهذه المدرسة جماعات عدة منها حركة الفلاح في السنغال.
مدرسة الإصلاح السياسي: وتتميز بتركيز أصحابها على العملية السياسة باعتبار أن السلطة السياسية هي الأداة الوحيد لإصلاح الأوضاع وأن الحل يكمن في إيجاد حكومة إسلامية. ومن الرواد الأوائل لهذه المدرسة السيد جمال الدين الأفغاني(1839/1897) وتلاميذه محمد عبده ورشيد رضا. وقد تأثرت بهذه المدرسة جماعة إخوان المسلمين والأحزاب السياسية الإسلامية التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية. (وربما جماعة عباد الرحمن في السنغال)

وكل واحدة من هذه للمدارس الإصلاحية حاولت أن تستجيب للأزمات التي تعرض لها المسلمون وقدمت طبقا لقراءتها للإسلام طرقا للخروج من الأزمة التي تعيشها البشرية وهي تتكامل فيما بينها ولها قاسم مشترك وإن ركزت كل واحدة منها على جانب معين من جوانب الحياة ـ دون إغفال الجوانب الأخرى ـ حسب سياقاتها التاريخية، فمرجعها واحد وهو القران الكريم والسنة النبوية الشريفة .

وبعد هذه الإشارة نقو ل بأن هناك ثلاثة مبادئ لا بد منها للخروج من الأزمة الروحية والخلقية

المبدأ الأول: الإيمان بالله تعالى وتوحيده
الإيمان بوجود خالق يأمر وينهى ويشرع لخلقه وتوحيده بالعبودية هو الذي يعصم الإنسان من الانزلاق والتحول إلى عبادة المادة وينجيه من الأزمة الروحية، لأن العالم المعاصر وفلسفاته لا تجيب على الإشكاليات الكونية مثل الميلاد والموت والسعادة والهدف من الوجود، يقول تعالى: « ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى»
فالإيمان مصدر النجاة في الدنيا والآخرة ومصدر الشعور بالأمن يقول تعالى: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون»
ولذا يقول الشيخ الخديم
أول واجب على المريد تحصيل زاده من التوحيد

المبدأ الثاني: العمل الصالح

فالإيمان لا يصدق بدون العمل بمقتضاه « فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل » ولذا يربط القرآن الإيمان بالعمل الصالح يقول تعالى: « والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر»
والعمل الصالح لا ينحصر في الشعائر كما يفهم البعض ولكنه يشمل صالحات الدنيا عمارة الدنيا يقول تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها
فالإسلام يجمع بين الروح والمادة بين الدنيا والآخرة بين تكنولوجيا والأخلاق.
والصلاح يترتب عليه الإصلاح يقول الشيخ الخديم في دعائه
ولتدخل المصلح في يدي وفي داري وثبتنه بالهادي الوفي

المبدأ الثالث: تزكية النفس4

فلا ينجو الإتيان بدون تزكية نفسه، ففلاح الإنسان مرهون بعملية التزكية هذه، فقد أقسم الله تعالى عدة مرات على أنه قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
وكانت من أسس مهام النبوة يقول تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم. ويقول عليه السلام إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
وتزكية النفس تعني تخليتها من الرذائل مثل حب الدنيا والكبر والحقد والحسد ونحوها وتحليتها بالفضائل كالتواضع نية الخير والسماحة وغيرها من الأخلاق الإسلامية.
فالتحلي بالأخلاق من دلائل صدق الإيمان ففي الحديث : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وفيه أيضا: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، فليكرم ضيفه، فليصل رحمه، فليقل خيرا أو ليصمت الخ

الخاتمة

إننا في هذا العرض حاولنا تقديم صورة عن الأزمة الروحية والخلقية في العالم وإبراز الخلفية الفلسفية لها ثم بينا شروطا ثلاثة لابد منها لمواجهة الأزمة: الإيمان والعمل الصالح وتزكية النفس ولم نتعمق في التفاصيل أو نتوسع في التعاليم الإسلامية، ونرجو أن تأتي المساهمات والمناقشات بمزيد من التوجيهات وان تلقي الضوء على بعض الجوانب الهامة التي لم نصل إليها أثناء العرض.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

داكار 06/02/2006








جامعة الشيخ أحمد بمب UCAB تكرم خريجيها

نظمت اليوم (14 فبراير 2024م) جامعة الشيخ أحمد بمبUCAB برئاسة فضيلة الشيخ مام مور امباكي مرتضى حفلة لتكريم خرجيها في رحاب كلية العلوم الدينية...