السبت، 3 ديسمبر 2022

رحلتي إلى بورتو نوفو (من مملكة داومي سابقا) إحدى محطات الشيخ الخديم في طريقه إلى الغابون

بحمد الله تعالى وصلتُ صباح الأمس (٢ ديسمبر ٢٠٢٢م) إلى بورتونوفو Porto Novo عاصمة بينين (مملكة داومي سابقا) بمناسبة الأيام الثقافية التي تنظمها الجالية المريدية في هذه المدينة منذ عشرين سنة، تخليداً لذكرى مرور الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه بها في رحلته إلى الغابون أثناء غيبته البحرية سنة ١٣١٣هجرية (١٨٩٥ميلادية).

ففي العاشر من ربيع الثاني ١٣١٣هـ الموافق للتاسع والعشرين من سبتمبر ١٨٩٥م رست في ميناء داومي السفينةُ التي كانت تقل الشيخ، بعد أن غادرت دكار يوم السبت الثاني من ربيع الثاني ١٣١٣هـ (٢١ سبتمبر ١٨٩٥م)[1]. وقد نقل صاحب "إرواء النديم" عن الشيخ كرامة أكرمه الله بها في داومي، وهي أنه رضي الله عنه أخذَ حقةً من المسك كانت عنده، ليرش بها ثيابه وكُتبه، فهتف به هاتف قائلا له : ألقِها في البحر، فلم يتردد، بل ألقاها، يقول رضي الله تعالى عنه: "فلما رست السفينة، دخل جمعٌ من إخواننا المسلمين، سمعوا بي، ليسلّموا عليَّ، فكل من سلَّم عليَّ دفع لي حقةً من المسك كلا أو جلا". وفيه يقول:

دعاني الرحيمُ عند داوُمِ له بما أغنى عن التساوم[2]

كان الشيخ في هذه المنطقة النائية وحيداً غريباً بين أعدائه، لا يستأنس إلا بالله وبالقرآن الكريم متوجهاً إلى مكان لا ناقة له فيه ولا جمل، ولم يكن له ذنب سوى سعيه لإعلاء كلمة الله وتجديد دينه وإصلاح مجتمعه، فأبى المحتل الفرنسي إلا أن يحول دون مبتغاه، فقرر إخراجه من بين أهله ومريديه، ولكنه رضي الله عنه وثِق بربه سبحانه وتعالى، وتوكَّل عليه، وتحلَّى بالصبر الجميل، وتحمّل الوحشة والغربة والطقس القاسي والبيئة المخيفة بمشاعر الشكر والرضى، لأنه كان يرى دائما نعمةً في طي النقمة.

ومما يدعو إلى العجب أن الشيخ حينما يذكر هذه الأماكن إنما يذكرها غالبا في مقام الرضى والشكر والتحدث عن نعم ربه عليه، وقد أشار في عدد من أبياته إلى بعض ما منَّ الله عليه في داوُم، ومنها:

أكرمني الأكرمُ عند داوُمِ بما به غنيتُ عن تساوم
**
ملَّكني الملك عند داوُم ما قد كفانيَ عِدى التساوم 
**
أغناني المغني عن التساوم به وبالمختار عند داوُم

ومن يتأمل في مسيرة الشيخ وغربته بالأمس وكيف صار أمره اليوم، حين يجتمع مريدوه في بورتو نوفو لتخليد ذكرى مروره بها، وهم يقرأون القرآن الكريم وينشدون قصائده مبتهجين وشاكرين الله تعالى على نعمه الوافرة، أمام جمع من مواطنيها، من بينهم بعض أمرائهم وأئمتهم، فلا بد أنه سيزداد إيماناً ويقيناً بوعد الله تعالى في قوله "وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين"، فقد نصر الله تعالى عبده الخديم كما نصر دعوته، ورفع شأنه، فتحوّل محلُّ غربته إلى محل يُحيِي فيه مريدوه ذكراه سنويا.

وقد لفت نظري بالأمس وأنا أدخل مدينة بورتو نوفو أن بلديةَ المدنية زيَّنت مدخلها الرئيس والشارع المتوجه إلى مكان الحفل بأعلام السنغال، وهي ترفرف على الأعمدة المتراصَّة في وسط الطريق مشيرةً إلى البُعد الوطني لشخصية الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وإلى أن سيرته جزء من تاريخ البلاد.

ولذلك يمكن القول: إن الشيخ الخديم في الوقت نفسه فخر ٌللإسلام، ورمزٌ للوطن، ومثال للإنسانية؛ وقد حان لإفريقيا – وللعالم الإسلامي - أن تكتشف منهجه ويستلهمَه من أجل تعزيز استقلالها وتسليح أبنائها بقيم التضحية، والتفاني، والجدية. 

وفي هذا المنظور تكون مسؤوليةُ المريدين في تجسيد هذا المنهج ونشره مسؤوليةً جسيمةً، وخاصة في ظل قيادة الخليفة الحالي سماحة الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله تعالى - صاحب الرؤية البعيدة والهمَّة العالية الذي ينوي الخير للبشرية جمعاء، ويحرصُ على توصيل رسالة الشيخ إلى العالم أجمع، ولا يدَّخر جهداً في سبيل تحقيق هذه الغاية.


                                                                 د. سام بوسو عبد الرحمن 

                                                                                                بورتو نوفو ٣ سبتمبر ٢٠٢٢م



[1]  وفقا لتحقيقات مجموعة سوْ سِوِ امبور   Sew sewi mboor (مجموعة مخصصة لدراسة تاريخ المريدية ومؤسسها)

إشكاليات في بعض المفاهيم المريدية… إصدارٌ جديد للدكتور خادم سِيلا

تمثِّل المفاهيمُ أدواتٍ ضروريةً لبناء المعارف وتوجيهِ التفكير، ولذلك تؤثر تأثيراً بالغا في مواقف الناس وسلوكياتهم. وهي تتشكَّل ضمن سياقات مع...