الثلاثاء، 19 أبريل 2011

تيولوجيا التحرير في فكر الشيخ أحمد بمبا البكي1

بقلم الأستاذ/محمد غالاي انجاي (بروكسل )

المتتبع لعلم الكلام منذ نشوئه – لاسيما في وقت نضجه على يد المعتزلة في العصر العباسي الأول والثاني – يجد بكل وضوح أن الحجاج أو الذب عن العقيدة الإسلامية قد تطور على مدى العصور والأزمان، لذا اتخذ في أحايين كثيرة ألوانا متباينة وأساليب شتى، ويتجلى ذلك في تعدد المناهج التي تبناها كل فرقة من الفرق الإسلامية (المعتزلة، أهل السنة، الشيعة، الخوارج، المرجئة، الخ.) للدفاع عن الإسلام ومقارعة مخالفيه وخصومه. ويتجلى أكثر هذا التنوع في المناهج حين ننظر إلى اختلاف هذه الفرق فيما بينها في تعريف هذا العلم، وكذلك في تصورها للميادين والموضوعات التي تمس علم الكلام وتندرج في نطاقه. والشيخ أحمد بمبا، بصفته شخصية إسلامية كبرى متضلعة ومتبحرة في علوم الدين، لـمَّا وجد، من ناحية، أحوال بني شعبه متدهورة جدا لرزوحهم في تلك الآونة تحت وطأة قوة أجنبية استعمارية لها سياسة مُنظَّمة غاية التنظيم ومُدجَّجة بالسِّلاح وتحمل في جعبتها مشروعا تحضيريا على حدِّ زعمها، ومن ناحية أخرى ألفى أيضا بني شعبه مُفتتنين بعقلية هؤلاء الغزاة الاستعماريين ومُنبهرين كل الانبهار بـمظاهر صنائع وبدائع حضارة تكنولوجية جديدة وافدة، ومزدهرة متطورة، لجأ – أي الشيخ أحـمد بمبا – إلى توظيف علم العقيدة الإسلامية (علم الكلام الإسلامي) واستخدمه كآلية يعتمدها لتحرير أبناء شعبه من ربقة الاحتلال وبراثن الغزو الثقافي الاستلابي. فقد توسَّل به لمجاهدة الأيدلوجيا الاستعمارية ذات الصبغة النصرانية كما دحض به شبهاتها ومشاريعها التي ترمي – ضمن ما ترمي – إلى استئصال الـهوية الدينية والثقافية لدى الشعوب المستعمرة.

وتأسيسا على ذلك، فإن الإنتاج الأدبي الغزير الذي يتسم بالحدة والثورية الذي نشأ عن هذه المواجهة الثقافية والفكرية بين الحضارة الغربية المادية (الايدلوجيا الاستعمارية ) والحضارة الأفريقية الإسلامية (المتجسدة في الحركة المريدية) هو ما اصطلحنا عليه – ولا مُشاحة في الاصطلاح – بــ "علم الكلام التحريري" أو "تيوولوجيا التحرير" (La théologie de la libération).

فقد صنَّف الشيخ أحمد بمبا أثناء هذه المواجهة الفكرية والايدلوجية مؤلفات وقصائد عديدة في الفترة التي وسمها بأنها مرحلة "غربة وجهاد" وهي تمتد فيما بين (1895-1904م [وتضم مرحلة النفي الأول إلى "الغابون" (1895-1902م)، وجزءا من النفي الثاني إلى "موريتانيا" الذي وقع فيما بين (1903-1907م)].

وتمتاز هذه التصانيف بأنها تجأر بصيحة أليمة وفجيعة في محاولتها أو في دعوتها، من خلال أساليبها السَّلسة والأخاذة، إلى إيقاظ ضمير الإنسان الأسود المسلم المستذل وتـثـويـر عقليته ضد السِّياسية الاندماجية، والاستلاب الثقافي والفكري وضد سائر مظاهر عمليات التّغريب التي كانت وقتذاك قد تغلغلت بعمق في أوصال القاعدة العريضة من هذا الشعب المتمزق الكيان، وإلى تفنيد أيضا العقيدة النَّصرانية – عقيدة المستعمر – فيما ادعتها من تجاديف تتعلق بعقيدة التثليث وما إلى ذلك من إنكار الوحي القرآني وعدم التصديق بشريعة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام ... الخ.

واللافت للنظر هنا – وهو ما نريد إبرازه – هو كيف استحال علم العقيدة في الفكر الـخديـمي إلى "أيدلوجيا عقدية تحررية" مستعملة ومُوظفة "كسلاح معنوي" للصمود في وجه هيمنة السُّلطات الاستعمارية الفرنسية بـهدف معارضة مشروعها التّغريبي التّوسّعي الـمُعادي والـمُمقت للدّين. حين نتصفح كتاباته نجد بوضوح كيف انتقل المشروع الخديمي من فكر صوفي مجرد (أدعية ومناجاة وتوسلات ... الخ) إلى علم كلام ليصهر في بوتقته إشكاليته، أي معارضة الحملة الثقافية التغريبية الاستلابية الاستعمارية.

يتبيَّن – إذن – من هذا السَّرد السَّريع أن الشيخ أحمد بمبا لـم يدّخر جهدا، طوال وجوده في أرض الواقع، في التذكير بأن أولويات تـحدي سياقه التاريـخي الـمزدوج (النزعة التسلطية الأرستقراطية الـمحلية من ناحية، والـهيمنة الاستعمارية الـمتزايدة على الـمستوى العسكري والتكنولوجي من ناحية أخرى) هي التي فرضت عليه تبني منهج تربوي يـحتل فيه حفظ العقيدة وغرس بذورها في القلوب والأفئدة مـحلَّ الصَّدارة. وفي هذا الـمضمار يقـول: «أعلى الـمقامات عند الله تعالى في هذا الزَّمن إسكانُ التَّوحيد في القلب».

والقمين بالإشارة هنا أن الفكر الـخديـمي يتأسس من مبدإ حضاري تقدُّمي مفاده الاستغناء بالغزوات التي غزاها رسول الإسلام مـحمد عليه الصلاة والسلام مع أصحابه رضوان الله عليهم ضد كفار الـجزيرة العربية ومُشركيها عن استخدام العنف بـجميع أشكاله، ولأيّ غرض كان:

بِـغَـزوات المُصطفى غَـنِـيتُ عَنْ * غَــزْوَةِ مَنْ قَصَدَنِي ولم يُعَنْ

وقوله:

نابت كتابتي لدى أهل الكتابْ عن غَــزوَات ذي المزايا لا عتابْ

وهذه النظرة التقدمية الـمستوعبة إلى حد بعيدٍ لـحركة التاريخ وتطور الأديان هي بدون ريب الطابع الغالب على الإنتاج الفكري والروحي لدى الشيخ الـخديـم بعد عام "شَهِدْنَا بِكَرَم" أي 1322هـ/1904م. فانقضاء هذا العام يُعد بكل تأكيد بداية طور جديد في تطور حياة الشيخ الـخديـم من الناحية الروحية والفكرية، فهو عبارة عن نـهاية "فترة الغربة" – الآنفة الذكر – التي كان الشيخ يـجاهد فيها النصارى الـمستعمرين جهادا سلميا بالقلم والفكر بعيدا عن كل مظاهر العنف وما يـمت إليها بصلة. وفترة الـجهاد هذه تبدأ من «الغيبة البحرية2» [التي وقعت فيما بين 1313-1320هــ، الـموافق 1895-1902م] إلى حين مكوث الشيخ واستقراره النسبي في حيّ الصَّرصارة بـموريتانيا3 عام (1322هـ، الـموافق 1904م). وهي – على حدّ قول الشيخ – كانت فترة "غربة وجهاد". لذلك نـجد كتاباته في تلك الـمرحلة من حياته تأخذ طابعا جديدا يُغاير في مضمونه ما تـمت كتابته في الـمراحل التي قبلها وبعدها. وقد استغرقت فترة الغُربة الجهادية هذه عشر سنين، نـجد ذلك عنده مثبتا نثرًا في قوله:

«اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا مـحمد وآله وصحبه كما جعلت هذه القصيدة نُـزُلا من غفور رحيم إلى عبده وخديـم رسوله صلى تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبارك بعد جهاده فيك وفيه عليه الصلاة والسلام عشر سنين من عام جيسش [أي عام 1313هـ/ الـموافق 1895م] إلى انقضاء عام بَكْسَشِ [1322هـ/ الـموافق 1904م] جهادا قبلته بقدر عظمة ذاتك (...).»

نـجد كذلك الشيخ الـخديـم يلمح إلى هذه الفترة الـجهادية (الغربة) في معرض تـحدثه بتلك الكرامات السَّبع التي منّ الله بـها عليه والتي هي بـمثابة سبع معجزات ظهرت للرسول صلى الله عليه وسلم:

بــاهـى رسـول الله كُـــلَّ الأنـبــيــا * عـلـيــهــم أبـــقـى سَـلامـــــــــــي ربِّــيـا

بِـغُـرْبَـتِـي عَـشْـرَ سِـنِينَ بِخِــــــــدَم * خــالـصـة لـذي الـوجـود والــقــــــــدم

والـخاصّيّة الـمميِّزة لـهذه الفترة هي أنّ الشيخ أحـمد بـمبا كان يعتبر نفسه أو على وجه التحديد كان يتصرف بصفته "عَالِمًا كَلامِيًّا"4 بالـمعنى الإسكولائي الإسلامي: «الـحجاج عن العقائد الإيـمانية بالأدلة العقلية والنقلية»، وذلك لـما انتصب نفسه آنئذ – (لوجوده في تلك الأثناء بين أيدي قوى التثليث وجبابرة الكفر والعناد) - للذبِّ عن الدين الإسلامي، ودحض ما ادّعته النّصارى في دينهم من هرطقيات وتـجاديف، خصيصا فيما يتعلق بـمبدإ التثليث، وعدم التصديق بالرسالة الـمحمدية الـخاتـمة وما ينجم عنه من رفض أو إنكار شرعية القرآن الكريـم بوصفه وحيًا مُنزلا من الله تبارك وتعالى إلى رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم. فكتابات الشيخ البحرية تصب غالبيتها في هذا الاتـجاه وحتى بعض كتاباته بعد عودته إلى وطنه. وكتابته طافحة بالأمثلة الدالة على موقفه الذابِّ عن الإسلام، منها على سبيل المثال قوله:

رددت مــا وجَّــهــه أهـــــــــل الــكـتــاب * الكــافــــــــــرون لك مــــن غـيــر مــتــاب

حــمــيـت ذاتـــــــــك عــن الـتــثــلـيــــث * يا واحـدا قـد جـلَّ عـــــن الـتـــثـلـيـث

وسنوات الغُربة هذه – على حد قول الشيخ أحـمد بـمبا – هي من جـملة الكرامات السَّبع التي منَّ الله بـها عليه، وفي ذلك يقول:

«ومن أسرار غيبتي أنّ الله منّ عليّ بسبع كرامات معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: غلب لي الله أعدائي قبل ظهوري، ووهب لي علما لـم يكن من التعلم، وباهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الأنبياء بغربتي عشر سنين وخدمتي له فيها الـخدمة الـخالصة، وحببني الله تعالى إلى كل سعيد، وأيّس إبليس وكلّ لعين معه مـنّي، وحببني تعالى إلى الـملائكة الكرام، وحببني إلى مؤمني الـجن».

ويـجب التنبيه، في هذا الـمقام، إلى أن استغناء العبد الـخديـم بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم عن القيام بالـجهاد الـمسلح (قتال الكفار والـمشركين بـحد السيف أو بالـمدافع، الخ.) – الـسالف الذكر – لا يـجب فهمه على أنه أراد بذلك الـحط من قدر مشروعية الـجهاد بالسلاح أو إلغائه تـماما إلى أن تقوم السَّاعة، بل لأن الـجهاد السِّلمي الذي دعا إليه ومارسه في عالـم الواقع، أي الـجهاد بالعلم وبالتقى يدخل في عموم دلالة قول الرَّسول (ص) ببقاء الـجهاد ومُضيه إلى يوم القيامة:

«والـجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل».

ذلك لأن الـجهاد لا ينحصر معناه في حـمل السِّلاح فحسب، بل معناه أوسع من ذلك، فيعني بوجه عام بذل الـجهد واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو عمل.

كما لا يـجب أيضا فهم هذا اللون من الـجهاد السِّلمي (علم الكلام التحريري أو تِيوُولوجيا التحرير) الذي قام به الشيخ أحـمد بـمبا على أنه دعوة إلى السَّلبية والـخذلان أو أنه مـجرد تـحريض على "اللافِعْلِ" (Non-action) أمام قوى الاستبداد وجبابرة الشر، بل هو جهاد، ولكن غير مـمزوج بالعنف. وبـهذا تكون دعوته إلى اللاعنف – كما يقول الـمَهَاتْـمَا غاندي (1869-1948م) – «ليس مؤداها عدم مقاومة الشر، بل مؤداها مقاومة الشر بغير عنف».

ومن هنا تـهوي تلك الاتـهامات الظالـمة في حق بعض الصُّوفية من أمثال الشيخ أحـمد بـمبا، وذلك لـما عُرف ودرج عليه رهط من الباحثين لاسيما الـمنتسبين إلى التيار السَّلفي الوهابي على وضع رجال التصوف قاطبة في قفص الاتـهام بقولـهم: إن هؤلاء الصوفية كانوا عُملاء للـسلطات الاستعمارية الـجائرة والـمستبدة حيث وقفوا جنبا إلى جنب معها، كما جنَّدوا أنفسهم متآمرين معها للحيلولة دون قيام شعوبـهم الـمستذلة بالثورة والتمرد ضدها!!

وينجلي هنا أمامنا بكل وضوح أن عدول العبد الـخديـم عن استعمال العنف في مناهضة القوات الاستعمارية الفرنسية ليس فقط مرده إلى أنه كان مُوقنا بتفوق العدو الأجنبي عسكريا كما صرح للأمير الأرستقراطي "لاتـجور" حين أتى إليه لطلب الـمشورة، وإنـما أيضا لـما كان يرى– بصفته صوفيا وأحد ربانية الأمة الإسلامية – أنَّ قوة الرُّوح سلاحٌ لا يُقهر أبدا، لذا نـجده يؤكد بأنه استغنى بالسر الـمُحمَّدي (الإلـهي) عن استعمال الـمدافع:

دِيــنِـيَ حُــبُّ الله والمُــــشَـــفَّـــعِ * مُستغنيا بِــسِـرِّهِ عـــن مِــدْفـــع

دفعي وجلبي خِدْمَة الهادي الأمين * مع الأمين والأمـيـن لا أمـيــــــــنْ

وقوله في موطن آخر:

حمى الحفيظ المانع * يُغني عن المدافع* لكل عبد خاشع * يطلب خير الحرم

الأستاذ/محمد غالاي انجاي (بروكسل )

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...