الأحد، 2 يونيو 2019

دعوة زعماء التصوف إلى وحدة الصف: نموذج السيد الحاج مالك والشيخ أحمد الخديم (ض) [1]


يواجه المسلمون في الوقت الراهن تحديات متنوعة كتفشي حالة الجهل وانتشار الفقر وبروز أعمال العنف، ويتعرضون للظلم والعدوان من قبل القوى المعادية للإسلام ، الأمر الذي يجعل بذلَ مزيد من الجهد لتحقيق الوحدة من أوجب الواجبات وأشد الضروريات إلحاحا.

وقد كانت لزعماء الطرق الصوفية مواقف مثالية في دعوة الناس إلى وحدة الصف ومحاربة الفرقة بين المسلمين. وسنورد في هذا المقام نموذجين من جهود زعماء الطرق في الدعوة إلى توحيد الصف والعمل من أجله عبر الشيخين: الشيخ أحمد بمبا والسيد الحاج مالك سي رضي الله عنهما.

كان المجتمع المسلم في الفترة التاريخية التي عاش فيها الشيخان يعاني من أدواء صعبة المعالجة، من أبرزها داء التعصب بأنواعه المختلفة، ولذلك عُني كل منهما بعلاج هذا الداء. ويتعين على الشباب أن يستلهم هذا التراث ويلعب دوره في السعي لتفعيل وترسيخ وحدة الأمة في هذه الظروف.

        أ) الشيخ الخديم  (ض) والدعوة إلى الوحدة

قام الشيخ الخديم رضي الله عنه بدور مهم في علاج رواسب التعصب المتولد من الانتماء المذهبي والطائفي والتي دبت وسرت في جسم الأمة حتى أضعفتها وفرقتها إلى فرق متناحرة ينظر بعضها إلى بعض بعين الاحتقار، ويتجلى ذلك من خلال مواقفه التفرق المذهبي والطائفي والطبقي.

موقفه من التفرق المذهبي:[2]
عالج الشيخ التفرق المذهبي الذي يسببه الخلاف بين الفرق الكلامية، فنهى عن معادة أي مسلم ينطق بكلمتي الشهادة " لا إله إلا الله " بقوله المشهور
        ولا تعادوا من رأيتم فـــــــــاه           يخــــــرج "لا إلـــه إلا الله"



وأما المذاهب الفقهية فقد اتخذ  الشيخ تجاهها موقفا متميزا : فقد اعترف بها واعتبر الأئمة الأربعة أئمته
        أئمتي في الفقه مالك العلى              والشافعي والحنفي والحنبلي



ومن هنا لا تُعتبر مذاهبهم معاول الهدم والتفرقة، كما نفهم من البيت تسويغ العمل بها جميعا، ولكنه نظرا لكون المالكية المذهب السائد في منطقته وجه اتباعه إلى الالتزام بها حفاظا على وحدة الأمة في هذه المنطقة .

موقفه من التفرق الطائفي :
فقد حارب الشيخ جعل الطرق الصوفية مطايا لتفريق المسلمين، فأكد بصراحة لم يسبقه عليها أحد بأن الأوراد  طرق للتقرب إلى الله ينبغي لصاحب ورد ما أن يعد أصحاب الأوراد الأخرى إخوة لله في الطريق، يقول في المسالك :
        فكل ورد يورد المريــــدا                 لحضــــرة الله ولم يحيــــــدا
        سواء انتمى إلى الــجيلاني              أو انتمى لأحمد التيجـــــاني
        أو لسواهما من الأقـــطاب               إذ كلهم قطعا على الصواب
        إذ كلهم يدعو المريدين إلى              طاعة رب العرش حيثما جلا
        بالاستقامة فلا تسخر أحد                منهم ولا تنكر عــليـــــه أبد

موقفه من مشكلة الطبقية الاجتماعية:
 ركز الشيخ في علاجه الطبقية الراسخة في المجتمع على مبدأ المساواة الذي نادى به الإسلام ، فلا تفاضل ولا تفاوت إلا بالتقوى التي هي ثمرة العلم والعمل والإخلاص يقول في " نهج قضاء الحاج":
        واعلم بأنما تفوت الورى         بالعلم والدين يكون فاصبرا
        وبهما يفضل من قد فضلا        ففيهما اجتهد مع التـــــأدب[3]


فهكذا نجد عند الشيخ اهتماما كبيرا بوحدة المسلمين في دعوته الإصلاحية، فعني عناية خاصة بتجفيف الروافد التي تغذي روح العداوة والتنافر وبتفتيح الينابيع  التي تروي بذور المحبة؛ ومن ابتهالاته رضي الله عنه التي تَنمُّ عن شدة حرصه على توحد المسلمين وتوطد أواصر المحبة بينهم قوله في قصيدة مطلب الشفاء
        واجعــــل قلوبنا علي التــــــوادد             بلا تنازع ولا تــحـاســـــــــد
        ولا تخاصـــــــــم ولا تــــــدابــــر            ولا تباغض ولا تــــنــــافــــر
         حتي نصير مسلمين خاشعـــين            ومؤمنين مخلصين صالحين[4]



  ب) السيد الحاج مالك سي والدعوة إلى الوحدة
يعتبر السيد الحاج مالك سِه رحمه الله تعالى (1855- 1922م)، أحد أقطاب الطريقة التيجانية في السنغال، من أبرز زعماء التصوف الذين لعبوا دوراً جليلا في نشر الإسلام في السنغال. وقد كان منتبها لخطورة التعصب الطائفي الذي كان يهدد وحدة الأمة ويدفع كلَّ فريق إلى احتقار من لم يسلك في طريقته. فحاول سد باب التعصب بتأكيد صلاحية جميع الطرق الصوفية الحقيقية وأهليتها لتوصيل سالكيها إلى حضرة المولى عز وجل فكتب يقول:

 فالـطـرق كـلّها إلى الرحمان
مـوصـلة مُـسـلكة يا جـاني[5]

وقال في كتابه "كفاية الرّاغبين": «على الشّيخ ـ كما في روح الأرواح ـ  أن ينبّه المريد أنّ تعظيمَ كلّ المشايخ المحقّـقين واجبٌ واحترام المسلمين فرض، وأنّ كلّ من حقر طريقةَ غيره فقد حقر الإسلام، وربّما جرّه ذلك إلى الكفر وهو لا يشعر، فإنّه يستحلُّ الغيبة والحقد والتفريق بين المؤمنين، فنعوذ بالله من الغرور». وحرصا منه على وحدة صف المسلمين يصل إلى القول بـ"أن الواجب على كل مسلم ترك قول كل شيخ يؤدي إلى الحقد والحسد والكبر أو إلى التفريق بين المسلمين"[6]

وفي هذا الكتاب أيضا يقول نقلا عن الشعراني رضي الله عنهما في كتابه لواقح الأنوار" وإياك أن تحذر من اتباع أحد من العلماء بقول أحد من حسادهم من غير اجتماع به فربما يكون بريئا مما نُسب إليه، فيكون عليك إثم قاطع الطريق على المريدين لاتباع الشريعة، فإنك حينئذ تحذر من اتباع السنة المحمدية؛ وهذا واقع كثيرا في الأقران في هذا الزمان، فترى كل واحد يحذر الناس عن الآخر وكل منهم يزعم أنه من أهل السنة والجماعة فيختل الأمر إلى عدم الاقتداء بواحد منهما"[7]

العلاقة الأخوية بين الشيخين 
فمن ناحية أخرى جسد الزعيمان دعوتهما إلى الوحدة عبر علاقاتهما الأخوية المتينة المليئة بالإشارات الموحية.
فقد كان السيد الحاج مالك "حريصا على حفظ القرابة الرَّحِمِيّة التي كانت تربطه بالعبد الخديم رضي الله عنه فضلا عن المحبّة في الله التي كانت السّبب الرّئيسي في مراسلاتهما وتهاديهما مرارا وتكرارا. فقد أهدى له، على سبيل المثال لا الحصر، مُصحفا مُرفَـقا ببيتين، حملهما إلى العبد الخديم مريده الوفيّ الحَاجِ رَوْحَانْ أَنْغُومْ (1859-1955م). والبيتان هما:
 هــديـة مُــوجـبــها اجتلاب 
مـــحـبّـة يــا أيـّهـا الـحُــبـــاب
أدام ربّنا لنا حبل الــوصال
وكفّنا شرّ الذي عادى وصال
فأجابه العبد الخديم ببيتين، هما:
جزاكم خير الجـــزا الوهّــاب
وفـي صـفا الـوداد لا تـرتـاب
فكيف لا والمصطفى المـجاب
إمـامنا والـقِـتْـلَ لا نــهــاب8]


دور الشباب في تفعيل هذه الدعوة
فهذه الدعوة إلى وحدة الصف من قبل زعماء التصوف، والتي لم نأت إلا بنموذجين منها، ينبغي تفعيلها وترسيخها وتوصيلها إلى الأجيال الراهنة والمقبلة، وللشباب في ذلك دور  يُنتظر. ويتمثل هذا الدور في:



   1. محاولة التعرف على وجهات نظر الاخر ومرجعياته الخاصة عن طريق إقامة مناسبات علمية مشركة تكون ميدانا للتبادل والتلاقح الفكري وتنظيم أنشطة ثقافية تسهم في تقريب الرؤى.
   2.  بناء علاقة روحية مبنية على الأصول والمرتكزات المشتركة المؤسسة لتعاليم زعماء الطرق الصوفية؛ فقد رأينا أنهم بنوا تعاليمهم على الكتاب والسنة وان اختلفت مناهجهم في التربية، فلا فرق بينهم في أصول الإيمان والإسلام والإحسان. 
   3. إبراز حقيقة تعاليم الزعماء وإيصالها إلى الأتباع العوام، ليدكوا مدى تلاقي  مشارب شيوخهم ووحدة أهدافهم
                عباراتهم شتى وحسنك واحد    فكل إلى ذلك الجمال يشير
       فهدف التربية الروحية واحد مهما كان المنهج المتبع فلا يخرج عن تزكية النفس وتطهير القلب من الرذائل وترقية همة المريد لكسب المعالي.
نسأل الله أن يسهل لنا الطريق نحو تحقيق الوحدة بين المسلمين استجابة لدعوة زعمائنا رضي الله عنهم وأرضاهم ، آمين


يمكنكم تحميل نص المحاضرة كاملا من هنا

[1]       جزء من محاضرة ألقيناها بمناسبة ندوة علمية نظمت في مدينة تياس سنة 2010 حول موضوع  "دور التصوف والطرق الصوفية في توجيه وتربية الشباب المسلم" وكان موضوع المحاضرة " دعوة زعماء الطرق الصوفية إلى الوحدة ودور الشباب في تفعيلها"
[2]عالمية دعوة الشيخ الخديم، محاضرة أعدتها دائرة روض الرياحين بمناسبة "مغال طوبى" لسنة ٢٠٠١
[3]نهج قضاء الحاج
[4]قصيدة مطلب الشفاء
[5]فاكهة الطلاب أو جامع المرام، ص. 30. مخطوط.
[6]كفاية الراغبين ص ١٦
[7]الكفاية ص ٤
[8]الأستاذ محمد غلاي انجاي، أحمد بمب الشخصية التاريخية، مجلة الوعي المريدي، العدد الأول، مايو ٢٠٠٨

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إشكاليات في بعض المفاهيم المريدية… إصدارٌ جديد للدكتور خادم سِيلا

تمثِّل المفاهيمُ أدواتٍ ضروريةً لبناء المعارف وتوجيهِ التفكير، ولذلك تؤثر تأثيراً بالغا في مواقف الناس وسلوكياتهم. وهي تتشكَّل ضمن سياقات مع...