تثير ذكرى الغيبة البحرية للشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه في نفسي خواطر وتأملات كثيرة. وقد استوقفني اليوم قولُه رضي الله تعالى عنه : شُغِلْتُ بالشُّكورِ عَنْ تَذَكُّرِ * مَا قَدْ جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَ الْعَسْكَرِ
يعبر هذا البيت عن موقف إنساني رفيع في تعامل الشيخ مع أحداث الماضي وحكمة بالغة في رؤيته للعلاقة بين البشر وما يحكمها من قضاء الله وقدره.
فمن طبيعة الإنسان أن يختزن في ذاكرته التجارب والخبراتِ التي يمرّ بها سواء كانت سارة أو حزينة، ويكون لهذا المخزون من الذكريات تأثيرٌ قوي في سلوكه ومواقفه واتجاهاته، يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا.
والشيخ الخديم رضي الله عنه من منطلق نظرته إلى الكون باعتباره خاضعا للعناية الإلهية يتجاوز الأسباب إلى مسببها ويرى خالقَ الكونِ ومدبر الأمور سبحانه وتعالى في كل الأحداث.
فقد اعتبر رضي الله تعالى عنه كل ما جرى بينه وبين السلطات الاستعمارية في حقيقة الأمر "نعمة في طي نقمة" لأنه سبب في حظوته بالمراتب الرفيعة التي كان يرنو إليها بهمته العليا وبايع عليها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بخدمته المباركة.
فكان استحضار الشيخ للمواهب الإلهية وما يثيره فيه من مشاعر الشكر والامتنان لا يترك مجالا عنده ليتذكر الآلام والمعاناة التي عاشها بسبب اضطهاد المستعمر له. فمن هنا اشتغل بشكر نعم الله تعالى بدلَ تذكُّر ما جرى بينه وبين الجنود الفرنسيين أثناء غيبته البحرية. وقد عبَّر عن هذا المعنى أيضا في قوله:
كليتي استغنت عن اشتكاء * وكلّ ما يجرُّ للبكاء
شَغَلَنَي شكرُ إلـهٍ قَبِلا* كليَّتِي عن ذكر ماضٍ مِن بَلا
وفي هذا الموقف دلالة عميقة على تسامي الشيخ رضي الله تعالى عنه وعلى خلُوّه من المشاعر السلبية التي تُولد في صاحبه روح الشكاية والانتقام. فقد كان طيِّبَ القلب نقيَّ السريرة لرؤيته فضل الله تعالى وكرمه عليه كما قال:
قد طاب قلبيَ لمَّا اللهُ سلَّمني * من العدى وبحطِّ الذنب أكرمني
وقد تجلَّى هذا الصفاء القلبيُّ والنقاوة العاطفية في عفوه عن أعدائه الذين ساموه أنواعا وألوانا من الضيم لا توصف، حين قال " عفوت لوجه الله مع صفو كلكلي"...
وقد ورَّث الشيخُ رضي الله تعالى عنه أتباعه هذه المشاعر الإيجابية تجاه ما وقع له من المحتل الفرنسي، حين أمرهم بتخليد ذكرى تغييبه من خلال الشكر والابتهاج بما منَّ الله تعالى عليه من النعم والمزايا والمآثر.
من يتصور ما كان سيحدث لو ترك الشيخ مريديه دون هذا التوجيه، ليقرروا بأنفسهم كيفية إحياء هذه الذكرى بعده؟! فقد كان بالإمكان أن يركزوا على الآلام والمعاناة بدل النعم والمنن، ويدفعهم ذلك إلى الميل نحو الانتقام والتشفي لشيخهم فيؤدي كل سنة إلى دوامة من العنف لا تتوقف.
ولكن بحمد الله تعالى ترى سفراء أعدائه ومضطهديه بالأمس وقادة جيشهم يتوافدون إلى طوبى، ويُقابَلون بالترحيب والتكريم، لأن المريدين "شُغِلُوا بالشكر عن التذكر".
رضي الله تعالى عن شيخنا أحمد الخديم وجزاه عن الأمة الإسلامية خير الجزاء.
صفر مباركٌ