حينما تكتبُ قامةٌ فكرية مثلُ الدكتور خادم سيلا عن المريدية وعن موضوع محوري مثل الخدمة، فإن ذلك يُعتبر حدثاً فكرياً يستحق الاهتمامَ والاحتفاء. فالدكتور خادم من العلماء والمفكرين الذين كرّسوا حياتهم لدراسة الإسلام عموماً والمريدية خصوصاً، بعدما نشأوا وترعرعوا في أحضانها.
إنه مفكر إسلامي، وعالم اجتماعي، وباحث ميداني يتعايش بعقله ووجدانه، مع القضايا الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية للمجتمع السنغالي وللطريقة المريدية بصفة خاصة، ويتفاعل مع أحداثها ويراقب تطوراتها، وحينما يدلي بدلوه في موضوع مركزي استحوذ على اهتمام العديد من الكتاب والباحثين، فلا شك أن إسهامه سيشكِّل طفرةً مهمةً في هذا الحقل.
فقد عرفتُ الدكتور خادم سيلا قبل أكثر من ثلاثين سنة، وأنا طالب في الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية، عرفتُه محاضراً بليغاً، وباحثاً حصيفاً، وكاتباً بارعاً، مهتما بقضايا مجتمعه، مدافعا بلسانه وقلمه عن القيم والمبادئ التي يقتنع بها حريصاً على نشر تعاليم الشيخ أحمد بمبا ومنهجه، وعلى تصحيح المفاهيم الخاطئة والسلوكيات المعوجَّة في طريقته، دائما يتصدَّى للتهم والإساءات التي تتعرّض لها المريديةُ بالحجج الدامغةِ والبراهينِ الساطعةِ، وبأسلوب تتسم بالرزانة.
إن الإسهامات الفكرية للدكتور خادم تمتاز بتعدُّد أبعادها، لأنها تستند إلى ذوقٍ صوفي وخلفية فقهية، وأدبية، وفلسفية، وتاريخية واسعة، بفضل ما يتمتع به من إلمام عميق بهذه الحقول المعرفية.
يأتي الكتابُ الجديدُ للدكتور خادم "الخدمة في فكر الشيخ أحمد بمبا كمنهج للتجديد والإصلاح" في ظرف يُعنَى فيه كثيرٌ من الباحثين بنظرية الخدمة في دراساتهم وتحليلاتهم؛ فمنهم من نحا منحى فلسفيا، ومن نحا منحا اقتصاديا أو سياسيا في تجلية مفهوم الخدمة ومضامينها. أما الدكتور فينظر إلى الخدمة نظرة أقرب إلى الشمول، ويتجلى ذلك من خلال تعريفه لها، حيث يقول: " أما نحن فنرى أنَّ الخدمة في المنظور المريدي تتمثل في المشروع التجديدي والإصلاحي الذي عاهد الشيخ أحمد بمبا مولاه سبحانه على القيام به خدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتلبية لمطالب مجتمعه"، ولذلك كان البُعد التجديدي والإصلاحي لدعوة الشيخ الخديم بارزاً في دراسته.
في التمهيد تعرَّض المؤلِّف للتعريف بالشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه، وبنشأته العلمية، وبجانب من ميوله الفكرية، كما صوَّر البيئةَ التي نشأ فيها، وما كان يسود فيها من مظاهر الفساد والانحلال، قبل أن يتناولَ مفهومَ الخدمة بالدراسة والتأصيل على ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية، وقسّم مراحلَ الخدمة إلى عدة مراحل؛ خصّص الفصلَ الأول للمرحلة الأولى التي تبدأ من عام ١٨٨٤م إلى ١٨٩٥م، ولأساليب الخدمة وآلياتها فيها، والفصلَ الثاني لمرحلة الغيبة البحرية، ولصوَرِ الخدمة فيها، والفصلَ الثالث لوقائع وأحداث الغيبة البرية في موريتانيا.
وأما الفصل الرابع فقد تناول فيه مرحلةَ الإقامة الجبرية في تيين Ceyeen، ووقف فيها على ركائز خدمة الشيخ وأصحابه، وكرَّس الفصلَ الخامسَ لمرحلة الإقامة الجبرية في جربل، وما تميزت به من أساليب الخدمة وآلياتها، والفصلَ السادس لبعض مجالات الخدمة وصورها. وفي الفصل السابع والأخير، تعرض المؤلفُ للخدمة بعد رحيل الشيخ رضي الله تعالى عنه، وكيفَ تطورت آلياتُها ومؤسساتُها المتمثلة في الدوائر المريدية.
وخلال هذه الفصول السبعة لم يبخل المؤلف على قُرَّائه بالتفاصيل الدقيقة والتحليلات العميقة الطريفة، والنظرات الثاقبة، والآراء النيرة التي تنم عن هاجس إصلاحي، وإحساس بالمسؤولية، ووعي عميقٍ بضرورة الاستفادة من منهج الشيخ التجديدي للرقي بالمجتمع من جميع النواحي، ولخدمة البشرية جمعاء. ومن ناحية أخرى، يُظهر الكتاب سعةَ َأفق المؤلف وتعمقه في تراث المريدية وتاريخها وخاصة في كتابات الشيخ رضي الله تعالى عنه.
وأخيرا، يُعدُّ هذا الكتاب في نظري مرجعاً أساسيا في فكر الشيخ رضي الله تعالى عنه ومنهجه؛ فهو مصدر ثريٌّ للباحثين وزادٌ مهمٌّ للمربّين ومنهلٌ صافٍ للطلبة والدارسين، وإضافة قيمة في المكتبة الإسلامية.