التربية والتعليم في الإسلام وفي المريدية
تحتل التربية والتعليم مكانة بارزة في سائر الأديان السماوية عموما، وفي الإسلام خصوصا، فقد بين القرآن الكريم أن التزكية والتعليم يأتيان في مقدمة مهام الأنبياء والمرسلين يقول تعالى :"هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"[الجمعة، ٢]
وفي الآيات الأولى المنزلة من الذكر الحكيم إشارة جلية إلى وسائل التربية والتعليم من قراءة وكتابة ودعوة إلى استخدامها؛ يقول تعالى "اقرأ باسم ربّكَ الذي خلق *خلقَ الإنسان من علق* اقرأ وربّك الأكرم *الذي علَّمَ بالقلم*علَّمَ الإنسان مالم يعلم".[العلق ١-٤]
وكان النبي صلى الله عليه وسلم المربي والمعلم الأول، ربّى أصحابه بسلوكه وأقواله على القيم الإسلامية السامية، وهداهم على الصراط المستقيم، فنشروا الإسلام، وسيطروا على مناطق شاسعة، وبنوا حضارة عظيمة في فترة قياسية.
وسار على خطى صحابته الكرام العلماء الصالحون ورثة الأنبياء، ومنهم شيخنا أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه، وقد عُرف بجهاده الشريف الذي جاهده لرفع راية الإسلام وإقامة مجتمع إسلامي حقيقي مستخدما فيه وسيلتي التربية والتعليم. وكانت مهمته الأساسية تجديد الدين وإحياء السنة النبوية الشريفة بالتعليم والتأليف والتربية على العمل وعلى الأخلاق السامية. وبفضل دعوة الشيخ الإصلاحية التي لقيت استجابة سريعة نشأت الطريقة المريدية منهجا للتربية والتزكية والخدمة.
وفي إطار هذه المهمة الجليلة، خلّف الشيخ رضي الله تعالى عنه تراثا علميا ضخما من مؤلفات ومراكز علميةٍ كان مريدوه يشرفون عليها، كما أطلع كبار مريديه على نيته إقامةَ صرح علمي كبير في طوبى، أعدَّ له العدة، من جمع الكتب والمراجع وإعداد المعلمين والمربين، قبيل انتقاله إلى جوار ربه، سنة ١٣٤٦هـ (١٩٢٧م).
وقد حرص خلفاء الشيخ رضوان الله تعالى عليهم وأبناؤه وكبار مريديه على النهوض بمهمة التربية والتعليم، فاهتموا ببناء المدارس لتحفيظ القرآن، وإنشاء مراكز لتربية المريدين. فانتشرت في طوبى وغيرها من قرى الطريقة المدارسُ والمجالسُ التعليميةُ، وظهرت فيها منذ الستينيات من القرن العشرين الميلادي معاهدُ إسلامية نظامية، أبرزها معاهد الشيخ أحمد امباكي غيدي فاطم ومعاهد الشيخ محمد المرتضى المعروفة باسم المعاهد الأزهرية. وفي هذه البيئة العلمية نشأ وترعرع الشيخ محمد المنتقى عالما مربيا ومحبا للعلم والعلماء.
الشيخ محمد المنتقى عالما ومربيا
عرف الشيخ محمد المنتقى، قبل أن يصل إلى سدة الخلافة، عالما مربيا محبا للعلم وداعيا إلى العناية بالتربية والتعليم. فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته لتحصيل العلم بالتعلُّم والاطلاع، وعانا في ذلك معاناة كبيرة، وفتح الله تعالى عليه، فحصل منه على حظ وافر. يتحدث الشيخ بنفسه عن مسيرته الدراسية فقال: وبدأتُ دراسة القرآن في السنة الخامسة من عمري، ثم نقلني منها شيخي ووالدي الشيخ محمد البشير إلى "طوبى امبل"، قرية من مؤسساته، ثم نقلني منها إلى "جربيل" العاصمة الأقليمية، وأكملت دراساتي القرآنية على يد الشيخ مور امبي سيسي معلم القرآن الصالح الشهير.
ثم عدت إلى قرية "طوبى امبُل" بإذن من الشيخ الوالد فبدأت دراسة العلوم الشرعية واللغة العربية على العلامة الإمام العادل الشهير الشيخ حبيب الله، وذلك في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات.
وفي عام 1953م دفعتني نزعة علمية إلى الطلب من الشيخ الوالد إذنه بالخروج من البلد إلى مورتانيا فأذن لي، فتعلمت في مورتانيا اللغة العربية، وحينما أتقنت علمي النحو والصرف عدت إلى السنغال، وتابعتُ دراساتي - بإذن من الشيخ الوالد - على العالم العلامة الصالح الشيخ محمد دم في "جربيل" رحمه الله تعالى.
وبعد هذه الرحلة العلمية الثرية لم يشف غليل الشيخ من المعرفة، فعقد العزم على الرحيل مرة أخرى ولكن والده صرفه عن ذلك، وأرشده من جديد إلى العالم العلامة الشيخ حبيب الله امباكي، رحمه الله تعالى، وفي ذلك يقول : "وفي أواخر الخمسينيات شغفتني مرة أخرى تلك النزعة العلمية بصورة عجيبة، ولكن الشيخ الوالد نصح لي بالإقامة فقال لي: "إن الشيخ حبيب هذا عالم وهب له الله فهما متميزا عليك بالإقامة ومراجعة جميع ما درسته وتصحيحه وتكميله عنده"، ففعلت ذلك حتى درست عليه مختصر الشيخ خليل وعلم العروض.
اشتغل الشيخ محمد المنتقى بالتربية والتعليم بعد مرحلة التحصيل، فأنشأ عددا من المعاهد للتربية والتعليم، منها معهد الشيخ أحمد الخديم لتحفيظ القرآن الكريم وللدراسات الإسلامية، في طوبى (١٩٩٦) ومعهد توغار، ومعهد طيب النفس. وفي هذه المعاهد تقيم غالبية التلاميذ ويعيشون على نفقة الشيخ وتحت رعايته الشاملة.
وأما محبة الشيخ محمد المنتقى للعلم والعلماء فهي معروفة للجميع، ويشهد لها سلوكُه مع العلماء من إكرام وبذل وإعانة، ومع العلم من قراءة ونشر. فالشيخ يُقرب العلماء ويُكرمهم، ويساعدهم ويتبنى أعمالهم.
ومنذ عدة سنوات يخصص الشيخ محمد المنتقى نهارا كاملا يلتقي فيه بالمشتغلين بالعلم لتكريمهم وتشجيعهم، فيُعد لهم ما لذَّ وطاب من الأطعمة والأشربة، ثم يعقد معهم جلسة يستمع إليهم قبل إلقاء خطاب تشجيعي إليهم.
ولما وصل إلى الخلافة جعل التربية والتعليم في مقدمة أولوياته، وكان المشروع الأول الذي بادر بإقامته هو بناء صرح علمي كبير تنفيذا لرغبة جده مؤسس الطريقة المريدية.
وكان هدف الخليفة الجديدة توطيد مكانة العلم والتعليم في مدينة طوبى؛ وذلك لرفعها إلى صفوف المدن الإسلامية المعروفة في العلم؛ كالمدينة المنورة والكوفة والبصرة. فمن ثَم، طمح إلى إيجاد برنامج تربوي متكامل مَبني على أسس التربية الإسلامية، وجامع لجميع المجالات العلمية الضرورية في الحياة الدينية والدنيوية للإنسان. والمشروع يهدف كذلك إلى تحقيق أحد أهم مشاريع الشيخ الخديم الذي كان يريد أن يبني في طوبى مركزا علميا يستقبل الدراسين من جميع أنحاء العالم.
مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين
وفي هذا الخطاب وضع الشيخ الخطوط العريضة للمشرع من أهداف وغايات بعيدة، وبرزت فيه رؤيته البعيدة في التربية، ومن أبرز النقاط الواردة فيه:
· أنه أقام المشروع من باب الخدمة،
• أنه طالما نذر إقامة مدرسة لصالح الأمة تكون امتدادا لتلك المدرسة التي ذكرها شيخنا الخديم،
• أنه لا يمكن إحياء تراث الشيخ إلا بالاعتماد على العلم،
• وأن العلم يمثل أولوية بين جميع مجالات الخدمة،
• وأن المشروع يشمل جميع مراحل الدراسة من البداية إلى القمة،
• وأنه يكرس حياته وجميع إمكانياته لإنجاز هذا المشروع.
ويمكن أن نستنتج من ذلك الخطاب حرصَ الشيخ منتقى على خدمة شيخه الشيخ الخديم في مجال التربية والتعليم وفقا لطبيعة العصر، وبعدَ نظر ه وعلوَّ همته، حيث يرتفع سقفُ طموحاتِه إلى فترة ثلاثة قرون، ويرنو إلى المدن العلمية العريقة (المدينة المنورة، البصرة، الكوفة)، ونلمس فيه أخيراً تقديرَه للكفاءات الذاتية بإناطة المسؤولية على عاتق علماء الطريقة بقيادة روض الرياحين.
واجعله دأبا مسكن التعلم ومـوضع الفكرة والتــفهم
وكان الشيخ المؤسس رضي الله تعالى، قد أعد العدة لإقامة صرح علمي يكون مقصد الطلاب من مخلف أرجاء المنطقة، فجاء هذا المشروع إسهاما في تحقيق رغبته.
د. سام بوسو عبد الرحمن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق