السبت، 30 نوفمبر 2024

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024 حول موضوع "دمج المدارس القرآنية في النظام التربوي: العوائق والتحديات والآفاق المستقبلية، وكنتُ مكلفا بتناول التحديات. وفيما يلي خلاصة مداخلتي.

التمهيد
في  واقع الأمر، لم تعد هناك حاجةٌ إلى التذكير بكون المدرسة القرآنية جزءاً من تراث السنغال الثقافي ومكوِّناً أساسيا من هويته. وإدماج هذه المؤسسات التعليمية في النظام التربوي الرسمي يلبي حاجةً ملحة لشريحة واسعة في المجتمع السنغالي، تكرر التعبير عنها في مناسبات مختلفة، منها الجلسات الوطنية حول التربية والتكوين لسنة 1981 ولسنة 2014م. ويهدف هذا الإدمج إلى الحفاظ على القيم الأصيلة والتراث العريق للمجتمع السنغالي مع الاستجابة لمقتضيات التنمية الوطنية.
ومنذ حوالي عقدين من الزمن بدأت السلطات التربوية في السنغال تنتبه إلى ضرورة الاهتمام بالمدارس القرآنية، وتُرجم هذا الاهتمام بالعديد من المشاريع التي تخصها. وقد أبدى النظام السياسي الجديد بدوره اهتماما بالغا بالتعليم القرآني يتجلى من خلال رؤيته وسياسته التربوي.

المدرسة القرآنية في الرؤية التنموية والتربوية الجديدة للسلطات الجديدة
في الحقيقة، نلاحظ أن السلطات الجديدة تحمل رؤية تنموية شمولية تولي اهتماما بالغا للعدالة والإنصاف في المجتمع، لأن من بين المحاور الأربعة التي تقوم عليها رؤية "السنغال 2050" محور رأس المال البشري والإنصاف الاجتماعي، والمدرسة القرآنية من هذا المنظور تعدُّ فاعلا أساسيا في هذا المحور.

وتجسد السياسة التربوية الجديدة للوزارة هذه الرؤية التنموية، فهي سياسة ترمي "إلى ترسيخ مجتمع تربوي منفتح، من أجل تكوين مواطن متسلح بالقيم الإفريقية والروحية قادر على رفع تحديات التنمية المستدامة والعلوم والتكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي".

ومن أجل ترجمة هذه الرؤية تؤكد السلطات الجديدة عزمها على إدماج الدارات في النظام التربوي الرسمي. وهذا السياق الجديد يبرر عقد مثل هذا اللقاء لمدارسة قضية الإدماج من جوانبها المختلفة، ومن بينها آفاقها المستقبلية.

الآفاق المستقبلية
إن إدماج التعليم القرآني في النظام الرسمي بصورة كاملة مدروسة ستفتح آفاقا مستقبلية مشرقة تمس جوانب مختلفة من التعليم القرآني: المدرسة القرآنية والعاملين فيها وخرجيها والنظام التربوي والمجتمع ككل. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض تلك الآفاق، وهي:

1. الوصول إلى وضع نظام تربوي متكامل يتناغم مع الرؤية الجديدة للسلطات التربوية ومتوافقا مع طموحات أهل القرآن والمجتمع السنغالي عموما.

2. القضاء على الازدواجية التي من شأنها أن تولِّد حواجز ثقافية بين شرائح المجتمع (شريحة تتبنى التعليم الفرنسي وشريحة أخرى تعتمد على التعليم العربي الإسلامي)، وقد تشكل هذه الحواجز خطرا على تماسك المجتمع واستقراره على المدى البعيد.

3. تمكين شريحة واسعة في المجتمع تملك كفاءات مختلفة من الإسهام بصورة أكثر فعالية في بناء هذا الوطن ومن الانخراط في سوق العمل بسهولة ويسر.

4. تمتُّع المدرسة القرآنية بوضعية قانونية موائمة تؤطر عملَ مؤسسات التعليم القرآني، وتحفظ خصوصيتها وتضمن لها الاعتراف الوطني والدولي. وهذا الاعتراف مدخل لبعض الإجراءات المهمة مثل:

o تطوير المناهج في المدارس القرآنية حتى تتقلص المدة الزمنية المكرسة في حفظ القرآن الكريم وتتمكن المتعلمين من تملك كفاءات أخرى تسهل لهم مواصلة دراساتهم في تخصصات مختلفة.
o تحسين ظروف المعيشة والدراسة في المدرسة القرآنية بحيث تحترم معايير الجودة المطلوبة في المؤسسات التربوية.
o تسهيل عملية تمويل المدارس القرآنية من ميزانية الدولة، ومن مصادر تمويل أخرى مثل الأوقاف والاستثمارات والهبات ونحوهما.
o تمكين المدارس القرآنية من الاستفادة من اتفاقيات التعاون مع المؤسسات الدولية.
o تمكين المدارس القرآنية من الاستفادة من ثورة التكنولوجيات الجديدة وخاصة الذكاء الاصطناعي.
o الأخذ في الاعتبار للسنوات التي يمضيها الطفل في حفظ القرآن، حين يريد الانخراط في المؤسسات التربوية الأخرى، ولا يكون تقَدُّمه في السن عائقا أمام مواصلة دراسته، كما يحدث في الوقت الراهن.
o تحقيق السنغال للهدف الأممي في الوصول إلى التمدرس العالمي وفقا الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة ODD.
o تحسين وضعية السنغال فيما يخص مراعاة حقوق الطفل وفقاً للاتفاقية 182 لمنظمة العمل الدولية OIT بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال.

الخاتمة
إن إدماج المدرسة القرآنية في النظام التربوي الرسمي يفتح آفاقا لها وللعاملين فيها، ولخريجيها وللنظام التربوي، وللمجتمع بشكل عام، وهذا ما يدعو إلى التعاون البناء من جميع الأطراف لتحقيق هذا الهدف السامي؛ فلا يمكن للحكومة أن تنجح نجاحا كاملا وميسورا بدون هذا التكاتف والتعاون.

د. سام بوسو عبد الرحمن

الخميس، 31 أكتوبر 2024

الشيخ محمد المنتقى امباكي صاحب المواقف المثالية

مرة أخرى، كشفت الفضيانات التي ضربت مدينة طوبى عن ذلك البعد الإنساني الرائع المتجذر في مواقف سماحة الخليفة العام للطريقة المريدية شيخنا محمد المنتقى الذي ينظر بعين الشفقة والرحمة، والتضامن، وحب الخير للجنس البشري عموما؛ فتراه يهبُّ لإغاثة الملهوف وتنفيس المكروب، ولا يميز في عطائه بين القاصي والداني، ويقف دائما في جنب ضحايا الكوارث، مهما بعدت المسافة بينه وبينهم، سواء حلت في المغرب أو في المشرق، ويتعاطف مع المستضعفين والمضطهدين في كل مكان.

وتؤازر هذه النظرةَ الرحيمةَ الموروثة من المبعوث رحمة للعالمين، عليه صلوات الله وسلامه، ومن خديمه المقتفي لآثاره رضوان الله تعالى عليه أريحيةٌ نادرة لمدِّ يد العون إلى كل محتاج.

والأعجب في ذلك كله سدادُ رؤيته في خطوة يخطوها ومبادرة يتخذها في قضايا مجتمعه، حيث تكون دائما نموذجا يحتذى به، لما تتضمنه من دلالاتٍ ودروسٍ يمكن لأصحاب المسؤوليات والقرارات أن تستهدي بها في سياستها وإدارتها للأزمات؛ فمواقفه - حفظه الله - في أزمة الكورونا وفي الأزمات السياسية العنيفة بعدها ليست عنا ببعيدة.

وقراره – حفظه الله – ببناء مساكين للمتضررين من الفيضانات في طوبى بعد مساندتهم بشكل عاجل بمبالغ طائلة لتخفيف وطأتها، يحمل في طياته الكثير من الدلالات: الشعور بالمسؤولية، السعي إلى حلول جذرية للمشكلات، والنظر إلى المآلات دون الاكتفاء بالحلول الجزئية الآنية.

إن في هذا القرار الأخير، كغيرها من قرارات الشيخ، لدرساً بليغا لكل صاحب سلطة – ولو محدودة – على الناس في وقت الأزمات: الوعي بالمسؤولية، والوقوف إلى جانب المحتاجين، واتخاذ الإجراءات الفعالة اللازمة، وإشراك الأطراف المعنية في تسيير جماعي شفاف. 
يا ليت قومي يعلمون!
                                                        د. سام بوسو عبد الرحمن

الأحد، 29 سبتمبر 2024

الندوة العلمية حول "جهود علماء الغرب الإسلامي في خدمة التراث الإسلامي": الفعاليات والتوصيات

نظمت جامعة الشيخ أحمد الخديم بطوبى بالتعاون مع كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس ندوة علمية دولية تحت عنوان "جهود علماء الغرب الإسلامي في خدمة التراث الإسلامي" بالعاصمة السنغالية دكار، يومي ٢٥و ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤م، وجاء هذا التنظيم في إطار العلاقات التعاونية التي تربط بين المؤسستين.
وعلى مدار اليومين أتحفنا ثلة من الباحثين بورقات علمية قيمة في محاور الندوة الثلاثة، وهي:
‌أ. جهود العلماء في خدمة علوم الشريعة الإسلامية؛
‌ب. جهودهم في خدمة علوم اللغة العربية وآدابها
‌ج. جهودهم في خدمة الحضارة الإسلامية

وقد شارك في الندوة باحثون كبار من السنغال، وليبيا، والمغرب، وغينيا، وغامبيا، وموريتانيا، وبنين، ونيجيريا، ، وطافوا بنا، خلال الجلسات العلمية الست، في أجواء الغرب الإسلامي من فوت جالو، وكاسمانس، وجامبور، وباوول، بالإضافة إلى نيجيريا والمغرب وليبيا، واستخرجوا منها كنوزا ثمينة كانت خفية خلَّفها العلماء في مجال اللغة العربية وعلومها والعلوم الإسلامية والتطبيقية، وقدموا أمثلة حية لإسهاماتهم المتميزة في هذه المجالات.
وكانت المناقشات في أعقاب المحاضرات ثريةً وعميقةً أماطت اللثام عن تمكن هؤلاء الباحثين وسيطرتهم على الموضوعات التي عالجوها في ورقاتهم البحثية، وأبرزت أيضا الحاجة الماسة إلى توسيع الأبحاث في التراث الإسلامي في الغرب الإسلامي وضرورة العناية بالمخطوطات الثمينة المتناثرة في مكتباته الأهلية ووضعها في متناول الباحثين.
وأخيرا، تمخَّضت الندوة عن توصيات مهمة، وهي:
1. إزجاء الشكر لجميع المشاركين في الندوة بأبحاثهم وتجاربهم واقتراحاتهم، وللمحاضرين الذين أثروا جلسات الندوة بحواراتهم الجادة.
2. إسداء الشكر إلى كل المسؤولين والجهات الرسمية في دولتي السنغال وليبيا على تعاونهم وتيسيرهم سبل انعقاد الندوة
3. الإشادة بمن أسهموا في إقامة الندوة وإنجاح أعمالها: إعداداً وتجهيزاً وتنظيما وتنفيذاً.
4. محاولة إيجاد مشروع بحث بين المؤسسات العلمية والأكاديمية حول مراحل انتشار الإسلام في الغرب الإسلامي وخصائصه.
5. إتباع هذه الندوة بسلسلة من الندوات المشتركة بين المؤسستين المنظمتين لها مرة كل سنة.
6. دعوة المؤسسات والمنظمات المعنية بخدمة التراث الإسلامي إلى المشاركة في هذه الندوات، والتوسع في أمكنة انعقادها لتشمل عددا من أقطار الغرب الإسلامي، على أرض الواقع أو عبر وسائل التواصل التقنية بحسب الظروف المتاحة..
7. توسيع مجالات التعاون وآفاقه بين المؤسستين من خلال تبادل الأساتذة وإقامة المحاضرات والبرامج العلمية المشتركة، وتبادل الرحلات العلمية بين الطلاب وتبادل الكتب والمطبوعات.
8. دعوة الباحثين إلى محاولة الوقوف على الدواوين الشعرية والمؤلفات العلمية المخطوطة لتحقيقها ودراستها ونشرها لتكون في متناول الباحثين.
9. إنشاء مجمع أو مركز لغوي يعني بدراسة الجهود المبذولة وتحقيق الكتب المؤلفة في خدمة اللغة العربية وعلومها داخل السنغال: تعليما وتأليفا بالتعاون مع إحدى الدول العربية الرائدة في هذا المجال.
10. تنظيم ندوة علمية حول جهود الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه في خدمة العلوم الشرعية واللغوية.
11. اعداد مشروع لجمع التراث الإسلامي لدول الغرب الإسلامي وتوجيه الفاعلين والأكاديميين إلى تبني سياسات تستهدف العناية بهذا التراث وترجمته ونشره
12. الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد التيارات الاستشرافية والمذاهب الإلحادية
13. إيلاء عناية أكاديمية بحركة التأليف في التراث الإسلامي المدون باللغات الأفريقية المحلية بوصفه من أهم الوسائل المثالية لنشر القيم الإسلامية والتمكين لها في المجتمعات الافريقية.
14. الاستفادة من الدراسات الأكاديمية، وهي مجموعة من رسائل الماجستير والدكتوراه التي تعلق كثير منها بالبحث في التراث الإفريقي وأعلامه، وكذلك من تجاربها في إقامة عدة ندوات للتواصل الثقافي بين أقطار الغرب الإفريقي.
15. العمل على نشر أعمال الندوة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وطباعتها، في نس خة خاصة بمجلة كلية الدعوة الإسلامية.
 
هذه هي التوصيات المنبثقة من الندوة والتي تعكس اهتمام المشاركين واعتقادهم بضرورة العناية بالتراث الإسلامي الثري الذي يزخر به الغرب الإسلامي. وقد انتهت الندوة بحمد الله وتوفيقه مساء يوم الخميس السادس والعشرين من شهر سبتمبر سنة 2024م.
روابط الندوة
كلمة افتتاحية د. سام بوسو عبد الرحمن 
كلمة البرفوسور مور في منسق الجامعة باللغة الفرنسية 
كلمة الدكتور عبد الأحد لوح عمد الكلية ورئيس اللجنة العلمية للندوة
كلمة الأستاذ الدكتور أبو بكر بو سوير عميد كلية الدعوة الإسلامية 
كلمة الوفد الليبي في الجلسة الافتتاحية
























الجمعة، 30 أغسطس 2024

وقفة مع الأنشطة العلمية للمغال

من المعروف أن الاحتفال بذكرى غيبة الشيخ أحمد الخديم البحرية أصبح مناسبة دولية يشارك فيها نخبة من العلماء والمفكرين والشيوخ من مختلف مناطق العالم، ويُنظم خلاها عدد من اللقاءات والجلسات العلمية على شرف هؤلاء الضيوف.

وفي هذه السنة (١٤٤٦ه/ ٢٠٢٤م) تم تنظيم خمس جلسات خلال اليومين ١٧ و١٨ من شهر صفر. ففي صباح الخميس السابع عشر من صفر نُظم لقاء علمي في مقر السادة الضيوف الشناقطة بعنوان "المريدية وتراثها العلمي بعد مائة سنة من رحيل مؤسسها" ألقى فيه محاضرةً قيمة كلٌّ من الأستاذ الدكتور يحيى ولد البراء الأستاذ بجامعة نواكشوط، والدكتور عبد الاحد لوح عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الشيخ أحمد الخديم بطوبى.

وفي مساء هذا اليوم أيضا، نَظمت دائرةُ روض الرياحين محاضرتَها العامة تحت عنوان "الشيخ الخديم ورجال السلطة قراءةٌ في رسالته إلى صمب لوب امير جولوف"، قدمها الشيخ أبو امباكي بشير بحضور جمع من ممثلي الطرق الصوفية والمنظمات الإسلامية في السنغال.

وفي الليل، استضافت الوفودَ القادمة من خارج السنغال في حفلة عشاء فاخرة دائرةُ حزب الترقية في معهدها فتح الفتاح (بيت القصائد) داخل مجمع الشيخ أحمد الخديم، وقُدمت خلالها مداخلاتٌ من قبل رؤساء الوفود بعد عرض موجز عن المجمع من كل هذه السطور، وكلمة افتتاحية من المرشد الروحي للدائرة السيد يوسف جوب وكلمة رئيس اللجنة الإعلامية والثقافية الشيخ عبد الاحد امباكي.

وفي صباح يوم الجمعة ١٨ صفر ١٤٤٦ نُظمت ندوةٌ علمية على شرف الضيوف الأجانب في دار الضيافة بدار المنان تحت عنوان " السلم والتسامح في الفكر الصوفي، المريدية نموذجا". شهدت هذه الندوة مداخلات قيمةً من كل من الشيخ الدكتور أسامة العبد رئيس جامعة الأزهر سابقا، والدكتور عبد الفتاح بن صالح بن محمد اليافعي من اليمن، والدكتور خالد التوزاني من المملكة المغربية، وكاتب هذه السطور وغيرهم، بإدارة الدكتور عبد الفتاح الردادي من تونس.

وفي مساء هذا اليوم نظمت أخيراً جلسة علمية أخرى حول موضوع "دور علماء السنغال في خدمة السنة النبوية الشريفة، في دار الضيافة غربي المسجد الجامع، شارك فيها ممثل للطريقة المريدية وممثل للطريقة التجانية وممثل للطريقة القادرية.

وهكذا كانت فعاليات هذه السنة - كالعادة- ثرية بأنشطة علمية ذات قيمة عالية، وقد مكنت المشاركين الأجانب من الاطلاع أكثر على منهج الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه، وفكره والقيم التي كان يجسدها في حياته وسيرته.
                                                            سام بوسو عبد الرحمن 

الاثنين، 8 يوليو 2024

مقومات النهضة، دراسة في مشروع عملية النهوض الحضاري للأمة الإسلامية .. كتابٌ قرأتُه

أثناء زيارتي لبروكسيل في بداية شهر يوليو الجاري
(2024) أهدى إليَّ الإمام البروفسور محمد غلاي انجاي  نسخة من كتابه الجديد القيم " مقومات النهضة، دراسة في مشروع عملية النهوض الحضاري للأمة الإسلامية (إصدار 2024)" فقمتُ بقراءته بشغف في جلسة واحدة، وودتُّ أن أشارك قُرائي الأعزاء خلاصةَ ما اطلعتُ عليه في السطور الآتية.

فقد جال المؤلِّف في معالجة هذه القضية المهمة على محطات أربعة أردفها بكلمة أخيرة حول التنظيمات المتطرفة. كانت المحطة الأولى للكاتب في دراسته هي تقييمُ خطابات النهضة، ويرى أنه عمليةٌ ضرورية في هذه "اللحظة التاريخية التي نعيشها" باعتباره إحدى مقوماتِ النهضة المأمولة، وقد خلُص إلى أن الأنساق الفكرية والقوالب المنهجية المعهودة في عالمنا الإسلامي "لم تعد صالحةً للتطبيق في أغلبها لكونها غير ملائمة"؛ لأنها قد صيغت في "سياقات زمنية وتاريخية محدودة"، وهنا تكمنُ حتميةُ صياغةِ مشروع النهضة في إطار العولمة.

وفي هذه المحطة الثانية، يَعتبر المؤلف أن الخروجَ من النظرة الانغلاقيةِ والاستلهامَ من الآخر أمر ضروري لا مفرَّ منه في عملية النهوض الحضاري، وأن قضية الاستلهام تنتمي بحق إلى التراث الإسلامي العريق، وتندرج ضمن "مواعيد الأخذ والعطاء"؛ فالإسلام ينظر إلى العلم باعتباره إرثا إنسانياً، ولذلك أظهر المسلمون منذ فجر الإسلام "نوعاً نادراً من السخاء العلمي" أسهم في نهضة الغرب العلمية. ولكن الغرب بأنانيته المفرطة وإرادته للهيمنة يرفض اليوم، من جهته، ردَّ البضاعة، ويحُول دون " نجاح عملية النهوض الحضاري عند المسلمين في مجالات العلم والتكنولوجيا".

ويرى الكاتبُ أن الأمة بحاجة إلى "إحداث ثورة جذرية حقيقية مبنية على الفكر"، ويراهن في هذه الثورة اللاعنفية الذكية المنتظرة على الشعوب والمجتمعات المدنية، بشرط توفير ما يسميه بالعلم الجمعي، والوعي الجمعي، والالتزام الجمعي، بالإضافة إلى "بلورة نظرية متكاملة في عملية النقل الحضاري".

وفي المحطة الثالثة، وقف الكاتب بين تيارين متقابلين تجاه ركيزة النهوض الحضاري: تيار يعتقد "أن إرثنا الثقافي كله أو جله ظلام وعتمة ولا أمل في نهضة إلا بالتنصل منه والاتكاء بالكلية على الآخر"، وتيار آخر يرى أن النهضة المنشودة لا تتأتى للأمة إلا بالتشبث والعناية الفائقة بالثوابت، وأهمها الوحي. وإلى هذا التيار الأخير ينحاز الكاتب لأنَّ العدول عن الثوابت، في نظره، يؤدي حتماً إلى نتيجتين: الاغتراب في الذات (إحساس الفرد بعجزه عن تغيير واقعه) والاغتراب في الآخر (انبهار بالآخر يؤدي إلى الذوبان في هويته).

وفي المحطة الرابعة عرَّج الكاتبُ على منطق الثنائيات الهدامة الذي يرى ضرورة التحرر منه. فعملية النهضة في نظره تستوجب الخروج من براثن ثنائية الخطأ والصواب في نطاق الاجتهاد والفكر الإسلاميين، لما تؤدي إليه من إقصاء وتفريق وتبديع وتكفير في مسيرة النهوض.

وقد خصص الكاتب كلمته الأخيرة للتنظيمات الإسلامية الإرهابية التي يرى أنها "داءٌ عضالٌ أرهق الأمةَ في وقتنا الراهن، وفتنةٌ حاكها أعداء الإسلام بعناية فائقة" تحت قناع السلفية.

ويرصد الكاتب تطوُّراً في فهمه لظاهرة الحركات المتطرفة، فلم يكن في حسبانه من قبل أن وراء بعضها "عقولا مفكرة، أو نخبةً حاقدةً مثقفةً ثقافة دينية واسعةً تُنَظِّرُ لها ما ترتكب من أعمال وخراب". وقد أشار إلى ركائز هذه الجماعات وأصولها. وعلى أساس هذه النظرة يدعو إلى "محاربة هذه الجرثومة بوسائل علمية وبشكل منهجي تُفند مستندَ معتقدِهم وتُزيح اللثامَ عن منهجهم الحركي". وقد اختتم المؤلف هذه الكلمة برسم خارطة طريق نحو "استئصال شأفة هذا الورم الخبيث". وتتمثل الخارطة في تفكيك خطاباتها وإعادة بنائها، والتعامل مع النصوص التراثية على أنها غير معصومةٍ في ذاتها، لا سيما إذا وُجد فيها ما يتناقض مع أصول الدين ومقاصد الشريعة النبيلة.

وفي الختام تعرَّض الكاتب لقضية الهُويَّة التي يعتبرها خارج موضوع الدراسة في حقل النهوض الحضاري، لأن القضية الأساسية التي طرحها القرآن الكريم هي قضية الوحدة لأمة التوحيد، وليست قضية هوية وإن كانت تتضمنها.

وهذه هي خلاصة ما خرجنا به من قراءة هذا الكتاب للأستاذ محمد غلاي انجاي، وهو كتاب صغير في حجمه، ولكنه قيم في محتواه، ومهم في موضوعه، وسياقه، ومقاربته النقدية، وخاصة في مراجعته لأدبيات الفكر الإصلاحي في العالم الإسلامي؛ وإن كان الكاتب في بعض الأحيان يقع في ما ينتقده، وخاصة منطق ثنائية الصواب والخطاء في الفكر حينما يقول عن أمر يعتبره حقيقةً "لا ينكره إلا مكابر أو عديم الإنصاف أو مفرط في الجهل"، وقوله : " وهذه حقائق دامغةٌ لا يجادل اليوم حول صحتها إلا مكابر متآمر آثر الأولى على الآخرة"، أو حينما يسوق فكرةً لا يبرهن عليها أو لا يورد أدلة كافية لتقريرها، كقوله عن الحركات المتطرفة "وإن تمَّت فبركتها وهندسة قوالبها من الخارج"، فهو لم يأت بأدلة علمية أو دراسات تثبت هذه الحقيقة.

وعلى العموم، ينم الكتاب، بعمق تحليلاته، وجمال أسلوبه، ووضوح طرحه، عن سعة اطلاع مؤلفه، وتمكُّنه من لغة الضاد، وحسه المرهَف تجاه قضايا أمته.

                                                                                 د. سام بوسو عبد الرحمن

                                                                                   بروكسيل 6 يوليو 2024

السبت، 8 يونيو 2024

تحفيظ القرآن الكريم للصم البكم: تجربة فريدة في طوبى

شهد العالم على مر التايخ اكتشافات مهمةً وحاسمة أسهمت في تغيير نمط الحياة على ظهر البسيطة، وتركت أثراً لا يمحى في حياة البشر، وتظهر تلك الاكتشافات أحيانا بمثابة إلهام إلهي.
وما تشهده مدينة طوبى في مجال التعليم القرآني للصم البكم يمكن إدراجه في هذا الإطار باعتباره اكتشافا لم يسبق له مثيل على حد علمنا . إنه اكتشاف لا يقل قيمة عن ابتكار طريقة البراي التي تسمح للمكفوفين بالكتابة والقراءة.
فقد توصل أحد مدرسي القرآن في طوبى إلى ابتكار طريقة لتدريس الصم البكم القرآن الكريم حتى يحفظوه حفظا جيداً ويكتبوه عن ظهر القلب. فالمدرس هو الشيخ حمدي مصطفى جوب الذي أُصيب ولده حبيب جوب بهذا الإعاقة ولما بلغ سن التعلم 2003 بذل جهداً كبيراً في البحث عن طريقة تمكنه من تعلم القرآن وحفظه، حتى نجح في تحفيظه القرآن، وفي تدريبه على تدريس الاطفال الآخرين المصابين بالاعاقة نفسها.

وهكذا شرع الولد الحافظ للقرآن في تنفيذ الطريقة نفسها بشكل ناجح، وبدأ الاولياء يرسلون أطفالهم الذين أصيبو بالصمم والبكم إلى المدرسة، ليدرسوا القرآن الكريم ويحفظوها. وبحمد الله حفظ عدد منهم القرآن، ويبلغ عدد الاطفال المعاقين في المدرسة حاليا 43 منهم 10 من الذكور و33 من الإناث.

ويمكن القول إن هذا الاكتشاف إنجاز تاريخي في مجال البيداغوجيا والتربية الخاصة يستحق الدراسة والتوسيع على مستوى العالم الاسلامي. فإذا كان القسيس الفرنسي الاب دي لوبي Abée de l'Epee المتوفى سنة 1789م - صاحب الفضل في انتشار منهج تدريس الصم بلغة الإشارة- مشهوراً عالميا بطريقته، فإن نجاحه يعود إلى عدة عوامل من بينها اعتراف الدولة بطريقته وتمكينه من نشر مؤسساته في بعض المدن الفرنسية، ثم اعتماد منهجه من قبل دول أخرى. ولا شك أن طريقة الشيخ حمدي في تحفيظ القرآن للصم البكم ليست أقل قيمة بالنسبة للمسلمين من طريقة دي لوبي.

وفي نظري، يجب على السلطات التربوية لمدينة طوبى وللسنغال عموما (من خلال إدارة المدارس القرآنية) أن تعتني بهذه التجربة الفريدة وتحميها وترعاها لتكون تجربة سنغالية تُصدر إلى العالم أجمع ليستفيد منها المسلمون في كل مكان. وفي هذا الصدد، يتعين دارسة التجربة وتوثيقها حتى تكون طريقة بيداغوحية ديداكتيكية معترفا بها دوليا، من خلال دراستها دراسة علمية، ووضع إطار تنظيمي وقانوني لها، وإعداد دليل مفصل لها حتى يتسنى تكْوِينُ مدرسين آخرين عليها.

ومن المهم في هذه المرحلة الأولى مدُّ يد العون إلى صاحب التجربة ببناء معهد خاص لهؤلاء الأطفال وتزويده بكل ما يحتاجون إليه من أجهزة المراقبة والأدوات الصحية والوسائل البيدغوجية المعينة، مع بناء سكن مناسب لهم .

فهذه مسؤولية الدولة في المقام الأول ومسؤولية المسلمين أجمعين، فليس هناك ما هو أكثر أهمية من رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة وتوفير فرص التعلم والاندماج في المجتمع، ودراسة كتاب الله تعالى للمسلم هي الأساس في تكوين شخصيته وجعله مواطنا صالحا.
                                        د. سام بوسو عبد الرحمن
تقرير تليفيزوني عن مدرسة الشيخ حبيب جوب


الجمعة، 10 مايو 2024

جامعة الشيخ أحمد الخديم بطوبى توقع اتفاقية الشراكة مع جامعة شيخ أنت جوب بدكار.

في يوم الاربعاء 24 ابريل 2024 استقبلت جامعة الشيخ أنت جوب وفدا رفيع المستوى من جامعة الشيخ أحمد الخديم بطوبى في حفلة كبيرة نظمت لتوقيع اتفاقية الشراكة بين الجامعتين بهدف توطيد العلاقات التعاونية ببنهما في مجالات البحث والتكوين وخدمة المجتمع.

وقد ترأس الجلسة الشيخ أحمد البدوي رئيس مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين والبرفسور آمد آل امباي رئيس جامعة شيخ أنت جوب والبرفسور مور فاي منسق جامعة الشيخ أحمد الخديم

حضر الحفلة عدد كبير من المسؤولين وعمداء الكليات في الجامعتين، ومن الشخصيات الأكاديمية البارزة مثل الرئيس السابق لجامعة شيخ أنت جوب البروفسور ابراهيم تيوب وجمهور من أعضاء الدوائر المريدية في دكار العاصمة.

وقبل مباشرة التوقيع تناول الكلمة كل من رئيس الجامعة المضيفة ومنسق جامعة الشيخ أحمد الخديم والشيخ أحمد البدوي وعبر كل واحد منهم عن أهمية هذه الشراكة بين المؤسستين، كما تم التنويه بدور الأساتذة في حامعة شيخ أنت جوب وإسهامهم الفعال في بناء المشروع البيداغوي لجامعة الشيخ أحمد الخديم، وتم التطرق أيضا إلى الآفاق المستقبلية لهذه الشراكة، ولما يمكن أن يعود إلى المؤسستين من الثمرات من الناحية العلمية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية. وخاصة فيما يخص التبادل على مستوى الطلبة.

وتُعد هذه الشراكة إطارا فعالا للتعاون البناء، ويمكن أن تُسهم في تسهيل حركية الأساتذة والباحثين بين المؤسستين المعنيتين، وتفتح باب التأطير المشترك للطلبة في مرحلة الماجستير والدكتوراه.

وتغطي مثل هذه الاتفاقيات الكثير من المجالات: التكوين والبحث، والتنشيط العلمي، وتبادل الأساتذة والطلبة، والوثائق والتقنيات وغيرها. وهذه الاتفاقيات في نهاية الأمر مبادرات استراتيجية بالنسبة للمؤسسات الفتية للاستفادة من المؤسسات ذات الخبرات الطويلة.

 مقالات ذات صلة 

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...