كثير من الرجال المؤثرين في تاريخ مجتمعاتهم لا يتم اكتشاف أبعاد شخصيتهم بأكملها إلا بعد رحيلهم، ودور الأجيال التالية تجاه مثل هؤلاء يكمن في استكناه سر تأثيرهم في حياة الناس واستخلاص نتائج تجاربهم وملامحها لصياغة نماذج تُحتذي بها من أجل تخليد أعمالهم وبلوغ الغاية التي كانوا يصبون إليها.
والشيخ صالح امباكي رضي الله عنه من الشخصيات التي تركت بصماتها في حياة المسلمين في هذا القطر، وقد عُرف عالما تقيا ورعا زاهدا في الدنيا وخبيرا بشؤونها ومربيا من طراز فريد، وقد ظهرت للعيان جهوده وإنجازاته في الحقل التربوي، ولكن البعد التجديدي من تربتيه لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة والاهتمام. ويُخيل إليَّ أننا لم نستوعب بعدُ حقيقةَ تجديده للنهج التربوي الخديمي ولم نُظهر ملامحَ هذا التجديد ولم نقف على كنه رؤيته التربوية.
فطيلة عقود من الزمن عُرف الشيخ صالح رضي الله عنه، من خلال "دَاراته" (أماكن معدة للتربية والتعليم) المتناثرة في ربوع السنغال أمثال كُتْ gott وانجبندل ndiapp ndal و اندوكا Ndoka وغيرها، باهتمامه البالغ بتربية المريدين تربيةً مبنية على منهج الشيخ الخديم رضي الله عنه حتى بلور تجربة متكاملة لها نتائج متحققة وملموسة وملامح متميزة.
ولما وصل إلى سدة خلافة المريدين شرع في وضع هذه التجربة على متناول الجميع لتطبيقها على نطاق واسع. فقد كانت مزارع خلكوم khelkom مجالا لتطبيق هذا النموذج تطبيقا يشارك فيه كافة أطياف المجتمع المريدي من مشايخ وأتباع. فلم تكن المحصولات الزراعية في واقع الأمر الهدف الأساسي من إنشاء هذه الدارات بل كان الغرض منه تطبيق المنهج التربوي الخديمي المتكامل من خلال توفير بيئة مهيأة لبناء النإنسان عقديا وروحيا وعاطفيا وعقليا وجسميا واجتماعيا، ومن وظائف هذه البيئة أنه:
- يتلقى فيها المتربي تعليما يُزوده بكفاءة علمية حقيقية، وقد تجلت فعالية هذا التعليم في الإنتاج العلمي الغزير للخريجين في معاهد خلكوم، فهناك مؤلفات في أصول الفقه والبلاغة والمنطق وغير تشهد على صلاحية المنظومة التعليمية وجودتها.
- تسهل أجواؤها الروحية للمتربين عملية التصفية والتزكية؛ فتصميم المنازل خاضع لمقتضى هذه التربية الروحية حيث يحتل المسجد محل الصدارة وبجانبه ساحة تحتضن حلقات الذكر وإنشاد القصائد، ومسكن النسوة منفصل عن مسكن الرجال. ونظام الحياة فيها محكم ومقولب بقالب الآداب المريدية تتجلى فيه قيمة القيادة والاقتداء وفعاليتهما.
- تمثل الحقول ميادين للتكوين العملي و مختبرات لإعداد عينات تنمو وفقا لرؤية الشيخ في مجال العمل : الإتقان والتضحية والمثابرة والانضباط والتواضع وغيرها من القيم التي ينبغي أن تصبغ سلوك المريد في عمله
فعلى ضوء ما ذكرناه يمثل نهج الشيخ صالح في التربية تجسيدا للثالوث الخديمي:
جمالكم علمٌ وسعيٌ وأدبْ *** فلازموه تُكفَ عنكم الودَب
ولم يُخف الشيخ صالح مشروعه التجديدي في خلكوم فقد أعلن أنه يريد إحياء منهج الشيخ في التربية من خلال تطبيقه على العينة التي تجمعت في هذه البقعة من الأرض على مرأى ومسمع بل ومشاركة جميع المريدين.
وقد كان لهذا المشروع التجديدي في حقيقة الأمر أثرٌ واضحٌ في حياة المريدين بصفة عامة؛ فقد ظهر اتجاه جديد نحو العودة إلى الحقول وإحياء القرى وربط المريدين المدنيين بالأرياف من خلال الحملات الموسمية للعمل في مزارع خلكوم وتجددت روح الخدمة في عقلية الأتباع المريدين إلا أن الرؤية الشمولية لهذا المنهج لم تستوعب بشكل كامل حيث طغى جانب العمل والإنتاج على جانب التربية والتعليم في الوعي الجماعي المريدي.
نرى أنه بعد سنوات قليلة من بدء العمل في خلكوم تجلت ظاهرة العودة إلى إنشاء القرى أو إحيائها من قبل الشيوخ ولكن هذه القرى لم تستنسخ النموذج الخلكومي الشمولي للتربية والتعليم والتكوين المهني في أغلب الأحيان ولم تنسج على منواله وإن حرص بعض المنشئين على فتح مدارس قرانية فيها.
إن مستقبل المجتمع المريدي باعتباره مجتمعا ناهضا ساعيا لتحقيق النمو المادي والروحي لجميع أفراده مرهون في نظري ببناء منظومة تربوية أصيلة على ضوء الرؤية الخديمية التي حاول الشيخ صالح رضي الله عنه تجسيدها من خلال دور خلكوم.
وهنا أتساْل : هل يوجد ما يفيد بأن النموذج الخلكومي مستوعب على حقيقته؟ وهل هناك جهود تبذل لتعميمه وتخليده؟
بقلم سام بوسو عبد الرحمن
مقالات ذات صلة