سيُفتَتَحُ
خلال أسابيعَ قليلةٍ في العاصمة السنغالية
دكار مسجدٌ كبيرٌ يحمل اسمَ "مسالك
الجنان".
وهو
عنوانٌ لكتاب من أهم مؤلَّفات الشيخ أحمد
بمب رضي الله عنه، وقد بنى مريدوا هذا الشيخ
المؤسس للطريقة الصوفية المعروفة
بـ"المريدية"
هذ
المسجد الجامع الذي يُعدّ من أكبر وأجمل
المساجد في أفريقيا جنوب الصحراء، يسع
لعدد من المصلين يقدر بعشرة آلاف، وذلك
اعتماداً على جهودهم الذاتية.
وللمريدين،
في واقع الأمر، تاريخٌ حافل مع بناء
المساجد بدأ في عهد الشيخ المؤسس رضي الله
عنه؛ فقد عُرف باهتمامه بالمسجد وبعمارته
معنويا وماديا، فقد كان يبتهل إلى الله
تعالى أن يُحول بيوته إلى مساجد حيث يقول
رضي الله عنه
واجعل
بيوتي كلَّها مساجدا ***
يا
نافياً من لا يكون ساجـدا
وكان رضي الله عنه يحرص على اتخاذ مسجدٍ في أي بقعة يحِلُّ فيها، وله قصة طريفة أيّام غربته في أدغال غابون النائية، فقد نصب عيدانا واتخذها مسجداً يُصلي للصلوات الخمسة، فاغتاظ بذلك حاكم المعسكر ونقضها وجرت بسبب ذلك مشاداتٌ كلامية بين هذا الحاكم وأحد المتعاطفين مع الشيخ، دامت ساعات!
وفِيما بينَ سنة 1916-1918، بنى الشيخ مسجداً كبيراً في محلّ إقامته الجبرية في "البقعة المباركة" بمدينة جربلْ غربيَّ مدينة طوبى، وكان يتذكر تلك الواقعة في غابون ويشكر الله تعالى على كون هذا المسجد الرحيب عوضاً عن ذاك المصلى. وعن مسجد الشيخ هذا يقول العلامة الوليّ الصالح الشيخ سيدي باب (1860 م – 1924)، رحمه الله تعالى في قصيدة طويلة رائعة :
نِعْمَ
مَأْوَى الذي يُريدُ قيامًــا ** أو
عُكوفاً ونِعْمَ مأوى الْعُفـــاةِ
إِنْ
يَكُــنْ للصَّلاةِ للهِ بَيْــتاً **
فَهْوَ بَيْتٌ أيضاً لِمَثْنَى
الصِّـلاَتِ
وقبيْل
انتقال الشيخ إلى الرفيق الأعلى أمر جميع
مريديه بتشييد مسجدٍ جامع في مدينته طوبى
المحروسة.
وكان
في ذلك الوقت أكبرَ مشروع للطريقة المريدية،
وقد بذل أتباعُها النفس والنفيس لإتمام
المشروع، فافتتح في يونيو ١٩٦٣ في عهد
خليفته الثاني الشيخ محمد الفاضل رضي
الله تعالى عنه، بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل.
وبعد
الانتهاء من بناء المسجد الجامع في طوبى
شرع المريدون في بناء مساجد أخرى في مناطق
متفرقة من البلاد، كما ظلَّ الحلم يراودهم
زمناً طويلا في تشييد مسجد جامع كبير في
عاصمة البلاد دكار حيث يتواجدون بشكل
مكثف في العقود الأخيرة.
وفِي عهد الخليفة السادس الشيخ محمد الأمين بار امباكي (ت ٢٠١٠م) حصل المريدون من الدولة السنغالية بمساعدة الرئيس السابق عبد الله واد على قطعة أرض واسعة في قلب العاصمة مساحتها ٦ هكتار، بعد تنازلهم مرتين عن قطعة أرض كانوا يُقيمون عليها صلوات العيد لسنوات عدة.
وفِي عهد الخليفة السادس الشيخ محمد الأمين بار امباكي (ت ٢٠١٠م) حصل المريدون من الدولة السنغالية بمساعدة الرئيس السابق عبد الله واد على قطعة أرض واسعة في قلب العاصمة مساحتها ٦ هكتار، بعد تنازلهم مرتين عن قطعة أرض كانوا يُقيمون عليها صلوات العيد لسنوات عدة.
وبعد سبع سنوات من الجهود الجبارة لإتمام
البناء بتمويل ذاتي، قرّر الخليفة الحالي
الشيخ محمد المنتقى حفظه الله تعالى تدشينَ مسجد
"
مسالك
الجنان "
في
السابع والعشرين من شهر سبتمبر ٢٠١٩م.
ويُعد هذا الافتتاح حدثاً تاريخيًّا كبيراً للإسلام بشكل عام وللمريدية بشكل خاص. فإنجاز هذا المسجد الكبير في قلب العاصمة السنغالية يحمل دلالات عديدة يختلف الناس في فهمها حسب اختلاف زوايا نظرتهم؛ ومن تلك الدلالات التي يمكن استخلاصها منه :
- أنه برهانٌ ساطع على ارتفاع شأن الدين الإسلامي على الرغم من رسوخ العلمانية وكثر أتباعها في هذه البلاد.
- أنه جزاءٌ من الله تعالى للشيخ الخديم رضي الله مقابل تضحياته الجسيمة في سبيل تعزيز الإسلام ورفع رايته.
- أنه تتويج لجهود الشيخ وانتصار لمقاومته ضد القوى الاستعمارية ومساعيها الامبريالية.
- أنه دليل على قدرة المريدين على رفع التحديات مهما عظمت إذا توحدوا وانتظموا خلف زعامتهم الروحية وهي الخلافة العامة للطريقة.
- أنه بداية عهد جديد لمزيد من الانفتاح للمريدية على العالم الإسلامي باعتبارها دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية وثقافتها في غرب إفريقيا.
وللناس
مذاهب شتى في قراءة دلالات هذا الصرح
الديني، ولكن الأدوار المنتظرة والأهداف
المتوخاة منه تستحق أن تُخصص لها عنايةٌ
فائقةٌ؛ فتُدرس بدقة متناهية وتُوضح
بجلاء حتى يتسنى للجميع أن يكرّسوا
اهتمامهم وجهودهم في سبيل تحقيقها.
ولاستجلاء بعضٍ من تلك الأدوار يمكن الانطلاق من فهم مهمة الشيخ الخديم التجديدية، ومقاربته التربوية، ووسائله الجهادية ( العلوم والتقى )، وأيضا من عنايته الفائقة بخدمة المسلمين أجمعين؛ فبالإضافة إلى توفير مكان واسع لأداء الصلوات الخمسة وصلوات الجُمعة والعيدين لعشرات الآلاف من المسلمين في قلب العاصمة داكار، يمكن لمسجد" مسالك الجنان" أن ينهض بأدوار مهمة للغاية تتمثل على سبيل المثال في:
- غرس روح الوحدة بين المسلين في البلاد باعتباره ملتقى للجميع على اختلاف الانتماءات والمشارب الفكرية.
- توعية المسلمين عامة والمريدين خاصة وإرشادهم في أمور دينهم وشؤون دنياهم.
- نشر التربية والقيم الإسلامية السامية في المجتمع السنغالي.
- تمثيل وسطية الإسلام وسماحته من خلال نشر تعاليم شيخنا أحمد الخديم.
- تجسيد روح التضامن الإسلامي من خلال رعاية الضعفاء والمحتاجين.
- مقاومة تغريبِ المجتمع السنغالي للحيلولة ضد طمسِ هويته الإسلامية.
- رفع معنويات المسلمين واعتزازهم بالدين الإسلامي.
- تشجيع السياحة الدينية والتلاقي والتعارف بين الشعوب المختلفة.
- إبراز الوجه الحقيقي للمريدية ونشر تعاليم مؤسسها على مستوى العالم.
فللمريد، على العموم، حقٌ في أن يرى في افتتاح هذا المسجد مؤشراً على انتصار جهاد شيخه على المشروع الاستعماري البغيض ويتفاخر بذلك، ولكن من المهم، في نظري، أن يتم التركيز أكثر على دراسة وتحقيق مثل هذه الأدوار المهمة التي تتجاوب مع أهداف الشيخ الخديم التربوية ووتوجهاته التجديدية وتتناسب مع التحديات الراهنة للمجتمع السنغالي المسلم.
نسأل الله تعالى أن يوفق جميع المعنيين بعمارة المسجد والقائمين على تسييره، وأن يسدد خطاهم.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف