السبت، 10 أكتوبر 2020

البُعد المقاصدي في فكر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه

عُرف الفقيه الأصولي الشيخ العلامة عبد الله بن بيه باتجاهه التجديدي في الفكر الإسلامي، ويتميز هذا الاتجاه بالأصالة والواقعية في الوقت نفسه؛ فإنه ينطلق من معرفة عميقة وإلمام واسع بالتراث الفكري الإسلامي خاصة في مجال الفقه وأصوله ويتغذى من هاجس قوي ووعي كامل برهانات العصر وإشكالاته.

يتابع الشيخُ أزماتِ المجتمعات المسلمة، ويشخِّص مشكلاتها، ويسعى لإيجاد حلول لهذه المشكلات. وفي هذا الصدد عُني بالجانب الفكري المنهجي الذي تتأسس عليه جل الممارسات الخاطئة نتيجة للخلل المنهجي الذي يعتري عمليةَ التفكير. وقد بذل جهداً كبيراً في البحث عن "أرضية تجديدية لفقه واقع المرحلة"

ويرى المتابع لكتاباته تركيزَه على إبراز صور الخلل المنهجي، ومنها على سبيل المثال اجتزاء النصوص، والإعراض عن الكليّات، وتغليب الجزئيات، وفكِّ الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وكذلك الفصل بين منظومة الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد إلى جانب إغفال السياقات.

فجميع هذه الصور كانت موضوع الاهتمام والمعالجة من قبل العلامة الأصولي، إلا أن قضية الفصل بين منظومة الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد كانت بارزة في مقاربته للخلل الفكري المنطوي في كثير من الفتاوى المعاصرة، وفي النوازل المستجدة؛ وفي هذا المنظور كانت عنايته بالمقاصد تُمثل بُعداً متميزاً في فكره الأصولي لما لهذه الفتاوى من آثار مدمرة في حياة المجتمعات المسلمة وفي سمعة الإسلام وصورة المسلمين.

تتبوأ نظرية المقاصد مكانةً بارزةً في تعامل الشيخ مع القضايا المعاصرة، فغالبا ما كانت الروحُ المقاصديّة عنده "معتمداً للترجيح وسنداً للتمريض والتصحيح وذلك باعتبار المقاصد مرجعاً أعلى ومعياراً أسمى من جزئيات الأدلة في مواقع الاجتهاد ومجاري الظنون التي تغلب على جل القضايا المعاصرة"1.

وهذه الروح المقاصدية تتعزز لدى العلامة بفضل نظرته إلى العقل البشري وحدوده، حيث يرى أنه لا يتعارض مع الوحي في نطاق الاستحالة العقلية والجواز والوجوب العقلي، " فما أحاله العقل لا يُجيزه الوحي وما يوجبه العقل يوجبه الوحي"2

وفي فضاء المعاملات الذي يرجع إلى مصالح البشر، يسير العقل البشري الخالص "إلى جانب الوحي في تكامل وانسجام (...) ويظل دليلا مستكشفا لا غنى عنه"3

وهذا التقدير للعقل عند الشيخ ينبثق من روح الإسلام الذي يُمَجِّده ويعطيه أسماء مختلفة "تشير إلى حقيقته الراشدة وعلاقاته الحكيمة، ويجعله مصدراً من مصادر المعرفة الأساسية بل المصدر الأول المنتج في العقائد والإيمان"4

ويمكن تفسير هذا الاهتمام بالمقاصد أيضاَ بقوة النزعة الإنسانية لدى الشيخ، وهي نزعة تتجلى من خلال حرصه على مصالح الناس، فنظرية المقاصد آلية فعّالة للمجتهد لتغليب جانب المصلحة في المسائل الاجتهادية، لأن "المقاصد الشرعية تُمثل منظومةً كاملة تردّ الشريعة إلى أصول معقولة تصون مصالح الناس"5. والشيخ في اختياراته يراعي دائما المقاصد، وهي مصالح العباد في العاجل والآجل حسب تعريف الإمام الشاطبي. وفي هذا الصدد يقول " لم آلُ جهداً في اعتماد الدليل مع مراعاة مقاصد الشريعة، وبخاصة مقصد التيسير والتسهيل"6 فهذه المراعاة المستمرة لجانب التيسير تنِمُّ عن هذه النزعة الإنسانية الحاضرة في فكر العلامة بن بيّه.

والمعتمد في هذا المنهج الاجتهادي هو القرآن الكريم، كما يقول، لأن " البحث عن المقاصد مطلب شرعي فُهم من القرآن الكريم في سياقين أولهما صريحٌ وثانيهما بالتلميح من خلال تضافر نصوص التعليل في مقامات الإيجاب والتحريم والتحليل"7

والتعامل مع المقاصد عند الشيخ لا يعني الجريَ وراء المصالح في جميع المناحي والسياقات بشكل غير منضبط، وليس "ترفا ذهنيا ولا ثقافة عامة يتعاطاها الصحفي والاجتماعي ولا موضوعا فلسفيا مجردا"8؛ ولذلك عُني بتسوير وتعداد المناحي التي تُوظَّف فيها آليةُ المقاصد حتى لا يتلاعب فيها من ليس بأهلها. وأبرز هذه المناحي أ) المسائل الاجتهادية التي لا نص بخصوصها أو لها نص لكن تطبيقه قد يخالف أصلا أو قاعدة معلومة من نصوص أخرى ب) الترجيح بين النصوص ج) المصالح المرسلة ج) سد الذرائع د) الجمع بين الأدلة والترجيح بينها عند التعارض.

ومن القضايا التي أبدع الشيخُ عبد الله في توظيف المقاصد الشرعية فيها وفي إبراز مدى أهميتها قضيةُ المعاملات المالية التي أصبحت من الإشكالات الكبرى في العالم الإسلامي بعد انفجار الأزمة المالية العالمية. ففي كتاب مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات أوضح " أن البحث عن المقاصد في قضايا المعاملات المالية لا ينبغي أن يقتصر على مجرد جرد للمقاصد وكشف عن علل أحكام معروفة، بل عليه أن يرمي إلى توسعة الأوعية المقصدية لتشمل مجالات أخرى من القضايا المستجدة لاستنباط واستنبات أحكام في تربة المقاصد الخصبة"9.

وفي التعامل مع المقاصد لم يغفل الشيخ قطُّ عن ضرورة العناية بإحاطة عملية الاستنباط بسياج محكم من الضوابط، فقد عُنِيَ ببيان علاقة المقاصد بالأدلة الأصولية و" تفعيل العلاقة بين المقاصد وقواعد أصول الفقه لضبط عملية الاستنباط وتأمين سلامة نتائج صيرورتها" 10.

هكذا، نرى أن البُعد المقاصدي في فكر العلامة ابن بيه واضحُ المعالم وبارزُ الملامح من خلال جهوده الكبيرة في سبيل توضيح المقاصد وتوظيفها واستثمارها من أجل بثّ روح جديدة في الاجتهاد الفقهي المعاصر الذي يتيه، في أحيان كثيرة، في متاهات القضايا الشائكة، وأصبح يُسهم في تأزّم حياة المجتمعات المسلمة بدلَ أن يُقدم حلولا لأزماتها.

فقد صار الاجتهاد مسرحا لكل من هبّ ودبّ واعتلى منبرَه أحيانا من لا يُميز بين الخاص والعام ولا بين المطلق والمقيد ولا بين النص والظاهر، فيُصدر فتاوى تتحول إلى سموم قاتلةٍ تلوث صفاء الفضاء الفكري للعالم الإسلامي.

فالشيخ باهتمامه بالمقاصد يحاول أن يفك الاجتهادَ من أسر الفهم القاصر للنصوص وأن يعالج خلَلا منهجيا يُهدّد سلامةَ المجتمعات المسلمة وتماسكَها وتعايشَها مع المجتمعات الأخرى

ويمكن القول في النهاية بأن اهتمام الشيخ بمقاصد الشريعة جزءٌ لا يتجزأ من مشروع فكري واسع يسعى إلى تحقيق وحدة الأمة الإسلامية من خلال معالجة الجذور الفكرية لمشكلاتها وأزماتها، ووراء هذا المشرع همٌّ أكبر وهو سلامة الحياة البشرية؛ ونتلمس ذلك الهمَّ من خلال إشارته إلى " أن مقاصد المعاملات المالية تندرج في منظومة الشريعة التي تتمثل في توفير السعادة في الدارين وحصول السعادتين"11

سام بوسو عبد الرحمن

الهوامش
1 مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات للشيخ عبد الله بن بيه ص 14
2 مشاهد من المقاصد ص 76
3 مشاهد ص 76
4 مشاهد ص 83
5 مشاهد ص 85
6 مقاصد المعاملات، ص 12
7 مشاهد ص 16
8 مشاهد ... ص 249
9 مقاصد المعاملات 439 ص
10 مقاصد المعاملات ص 439
11 مقاصد المعاملات ص 438

مقالات ذات صلة

منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة . ... دور ريادي في نشر ثقافة السلم

يوم دراسي حول "الأسس المنهجية لثقافة السلم عند معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه حاجة لتعزيز التعايش السلمي في السنغال"  

السبت، 3 أكتوبر 2020

البيان الختامي للملتقى الصوفي الدولي الرابع

في اليومين 13 و14 صفر 1442هـ (1 و2 أكتوبر 2020مـ) انعقد عبر المنصات الإلكترونية الملتقى الصوفي العالمي الرابع تحت عنوان "الخدمة والعمل الخيري آليتان لمواجهة تداعيات فيروس كورونا الجديد".
وقد افتُتح الملتقى ظهيرة يوم الخميس 13 صفر 1442هـ (أول أكتوبر 2020مـ)، وألقيت في الافتتاح الكلمتان الآتيتان:
- كلمة ترحيب ألقاها سرين أحمد البدوي امباكّي المنسق العام لروض الرياحين.

- كلمة تعريف بالملتقى ألقاها سرين الشيخ عبد الأحد امباكّي غايندي فاطمة رئيس لجنة الثقافة والإعلام التابعة للجنة المنظمة للمغال.
وبعد كلمتي الافتتاح ألقى الأستاذ عافية أحمد انيانغ المحاضرة الافتتاحية وتحدث فيها عن الشيخ الخديم رضي الله عنه ودعوته الإصلاحية التجديدية.

وقد امتدت أعمال المؤتمر على مدار يومين في خمس جلسات تم خلالها تقديم 18 عرضا حول خمسة محاور من قبل أساتذة جامعيين وباحثين من نيجيريا، والمغرب، وتونس، ومصر، ولبنان، والأردن، والعراق والإمارات العربية المتحدة، وإنجلترا، وفرنسا، وبلجيكا، والسنغال.

والمحاور هي الآتية:

1- الخدمة والعمل الخيري: مفاهيم ومظاهر.

2- العمل الخيري في ظل الوباء: مقاربات نظرية ونماذج.

3- الخدمة والعمل الخيري في مواجهة تداعيات الأزمة.

4- تعاليم الشيخ أحمد الخديم رضي الله عنه وتداعيات أزمة كورونا.

5- الخدمة في الطريقة المريدية: نظريات وممارسات.

وفي مساء هذا اليوم الجمعة 14 صفر 1442هـ (2 أكتوبر 2020مـ) أقيمت الحفلة الختامية بحضور الشيخ محمد البشير عبد القادر رئيس اللجنة المنظمة للمغال ممثلاً للشيخ محمد المنتقى امباكي الخليفة العام للطريقة المريدية.

وقد أسفرت أعمال الملتقى عن النتائج الآتية:

- اتفق المشاركون على أن الخدمة هي إيصال النفع إلى الخلق طلبا لمرضاة الله.
- اتفق المشاركون على أن الخدمة تشمل جميع مجالات الحياة.
- اتفق المشاركون على أن الخدمة والعمل الخيري ترجع جذورهما إلى القرآن الكريم والسنة النبوية وإلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
- اتفق المشاركون على أن الخدمة والعمل الخيري متأصلان في الفكر الصوفي وفي تطبيقاته عند الصوفية.

- اتفق المشاركون على أن الخدمة من أبرز ما تتميز به الطريقة المريدية.

- وقف المشاركون على نماذج من المبادرات التي قامت بها الطرق الصوفية والجمعيات الإسلامية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا الجديد ممثَّلةً في الطريقة المريدية في السنغال، ومؤسسة الشيخ قريب الله في نيجيريا، وصوفية مصر والشام، وجماعة عباد الرحمن في السنغال.

- اتفق المشاركون على التوصيات الآتية:

1- زيادة الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية اهتمامها بالخدمة في شتى صورها.
2- توعية الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية أتباعها وأعضاءها لاسيما الشباب منهم بأهمية الخدمة وتوجيهها إياهم إلى ممارستها في شتى مجالات الحياة.
3- تشجيع الدول الإسلامية الخدمة والعمل الخيري من خلال تسهيلات ضريبية ونحوها.

هذا، ويعبر المشاركون عن خالص شكرهم للشيخ محمد المنتقى امباكّي الخليفة العام للطريقة المريدية وللجنة المنظمة للمغال واللجنة المنظمة للملتقى، ويدعون الله أن يكلل جميع مساعي الطريقة بالنجاح.

طوبى، في 14 صفر 1433هـ (2 أكتوبر 2020).

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...