في هذه الأيام نشهد بعض السلوكيات الغريبة من أشخاص يدّعون النبوة أو ينصبون "كعبتهم" الخاصة ليطوفوا حولها أو يتوجهون إلى مسجد جامع بقصد الطواف حوله، ومثل هذه التصرفات التي تتصادم صراحةً مع تعاليم الإسلام يدعونا إلى وقفة تأملية لإعادة النظر في خطابنا الدعوي وتقويم مدى فعاليته أمام مظاهر الانحراف المختلفة.
إن المطلع على تاريخ البشر يجد أن الجانب العقدي أشد الجوانب غموضا في حياة الإنسان، وأكثرها تأثيرا في سلوكه وميوله، فأحيانا ينفلت عن سيطرة العقل، بل يتحول إلى موجه له نحو متاهات مظلمة.
وقد كان أبرز مهام الأنبياء والمرسلين تصحيح وترسيخ العقائد التي هي أس الأعمال والعبادات، وهي مهمة ورثها العلماء الصالحون والأولياء المصلحون.
ولا تزال العقيدة على الرغم من جهود هؤلاء المصلحين تمثل أرضية خصبة تنبت فيها بسهولة مختلفُ أنواع الانحرافات. وسرعة نمو هذه الانحرافات وعدمها يتوقفان على فعالية وسائل التربية والإرشاد التي يعتمدها مجتمع ما لمعالجتها وللوقاية منها؛ ومهما يكن من أمر فإن استئصالها يُعد ضربا من المستحيلات لأنها نوع من الابتلاءات الإلهية " ليبلوكم أيكم أحسن عملا".
وحينما ننظر في مناهج المصلحين أصحاب الطرق الصوفية ونرى فعاليتها وتأثيرها في حياة الناس في عهد الشيوخ المؤسسين رضوان الله عليهم، يمكن أن نتساءل عن مدى احتفاظها بتلك الفعالية وبذلك التأثير في عصر الخلف؟ وهذا التساؤل قد يؤدي بنا إلى مكمن الخلل في الاستخدام أو القصور في التوظيف.
وهنا أضع الخطاب الدعوي المريدي بشكل خاص في محل التوصيف والتقويم لمعرفة ما له وما عليه من حيث التعامل مع مظاهر الانحراف الملحوظة في عصرنا الحالي.
فقد مر هذا الخطاب، في تقديري، بمراحل؛ وهي مرحلة التأسيس على يد الشيخ رضي الله عنه، ومرحلة التأصيل على يد كبار أتباعه أمثال العلامة محمد عبد الله العلوي الشنقيطي والعلامة الشيخ محمد البشير وكاتب سيرته الشيخ محمد الأمين جوب وغيرهم، ومرحلة التوظيف التي نعيشها حتى الآن.
وما نلاحظه في هذه المرحلة الأخيرة هو تنوع دوافع التوظيف وأساليبه: فهناك توظيف للخطاب يرمي إلى تجلية حقيقة الدعوة الخديمية والتعريف بها ودحض ما يثيره المغرضون حولها، وتوجيه المريدين إلى التمسك بتعاليم الشيخ أحمد الخديم وإلى تطبيقها في حياتهم، وإظهارها كمشروع مجتمعي ينبغي الرجوع إليها في بناء مجتمع صالح.
وهناك توظيف آخر يهدف إلى تعبئة المريدين وإثارة عواطفهم من أجل تقوية تمسكهم بشيخهم، وقد يهدف إلى غرض آخر مادي بحت؛ فقد اتخذ البعض هذا الخطاب الفلكلوري وسيلة للكسب المادي بصرف النظر عن آثاره الجانبية السلبية.
ويختلف الاتجاهان في الأساليب والآليات؛ فبينما يجنح التوظيف الأول نحو الأسلوب العقلاني المنطقي في مخاطبة العقول بمنهج يحاول أن يكون علميا رصينا، ويعتمد على كتابات الشيخ في الغالب، يميل الاتجاه الثاني نحو الأسلوب السردي التمثيلي المثير ويتبنى الروايات الشفهية بكثرة. وطبيعة الأول أنه نُخبوي يتعاطاه المثقفون والدارسون والثاني شعبوي يستهوي الجماهير ويستقطبها بشدة.
ونقطة ضعف الخطاب العقلاني أنه محصور في نطاق الدارسين تقريبا، ولم يتمَّ تنزيله إلى مستوى السواد الأعظم من الناس، ومن هنا يستغل الخطاب الفولكلوري هذه الفرصة ليتغلغل وليهيئ – ربما بدون قصد - أرضية خصبة لمثل الانحرافات التي نشهدها.
وهنا مكمن خلل في الخطاب المريدي يجب التنبه له والعمل لتصحيحه؛ فليس هناك بد من التفكير في استراتيجيات مناسبة لتعزيز الخطاب العلمي وحقنه بمزيد من الروحانية، من أجل زيادة قدرته على التعامل مع العقول والقلوب والتأثير فيهما في آن واحد، حتى يكون أكثر فعالية في علاج الانحرافات أو الحد من انتشارها.
والخطاب الفولكلوري، وإن ير البعض أن لها وظيفة التعبئة والتحفيز، يحتاج إلى تهذيب وتوجيه حتى لا يتحول إلى مِعْول لهدم التعاليم الإسلامية الصحيحة التي كرس الشيخ حياته من أجل نشرها.
سام بوسو عبد الرحمن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق