الاثنين، 8 يوليو 2024

مقومات النهضة، دراسة في مشروع عملية النهوض الحضاري للأمة الإسلامية .. كتابٌ قرأتُه

أثناء زيارتي لبروكسيل في بداية شهر يوليو الجاري
(2024) أهدى إليَّ الإمام البروفسور محمد غلاي انجاي  نسخة من كتابه الجديد القيم " مقومات النهضة، دراسة في مشروع عملية النهوض الحضاري للأمة الإسلامية (إصدار 2024)" فقمتُ بقراءته بشغف في جلسة واحدة، وودتُّ أن أشارك قُرائي الأعزاء خلاصةَ ما اطلعتُ عليه في السطور الآتية.

فقد جال المؤلِّف في معالجة هذه القضية المهمة على محطات أربعة أردفها بكلمة أخيرة حول التنظيمات المتطرفة. كانت المحطة الأولى للكاتب في دراسته هي تقييمُ خطابات النهضة، ويرى أنه عمليةٌ ضرورية في هذه "اللحظة التاريخية التي نعيشها" باعتباره إحدى مقوماتِ النهضة المأمولة، وقد خلُص إلى أن الأنساق الفكرية والقوالب المنهجية المعهودة في عالمنا الإسلامي "لم تعد صالحةً للتطبيق في أغلبها لكونها غير ملائمة"؛ لأنها قد صيغت في "سياقات زمنية وتاريخية محدودة"، وهنا تكمنُ حتميةُ صياغةِ مشروع النهضة في إطار العولمة.

وفي هذه المحطة الثانية، يَعتبر المؤلف أن الخروجَ من النظرة الانغلاقيةِ والاستلهامَ من الآخر أمر ضروري لا مفرَّ منه في عملية النهوض الحضاري، وأن قضية الاستلهام تنتمي بحق إلى التراث الإسلامي العريق، وتندرج ضمن "مواعيد الأخذ والعطاء"؛ فالإسلام ينظر إلى العلم باعتباره إرثا إنسانياً، ولذلك أظهر المسلمون منذ فجر الإسلام "نوعاً نادراً من السخاء العلمي" أسهم في نهضة الغرب العلمية. ولكن الغرب بأنانيته المفرطة وإرادته للهيمنة يرفض اليوم، من جهته، ردَّ البضاعة، ويحُول دون " نجاح عملية النهوض الحضاري عند المسلمين في مجالات العلم والتكنولوجيا".

ويرى الكاتبُ أن الأمة بحاجة إلى "إحداث ثورة جذرية حقيقية مبنية على الفكر"، ويراهن في هذه الثورة اللاعنفية الذكية المنتظرة على الشعوب والمجتمعات المدنية، بشرط توفير ما يسميه بالعلم الجمعي، والوعي الجمعي، والالتزام الجمعي، بالإضافة إلى "بلورة نظرية متكاملة في عملية النقل الحضاري".

وفي المحطة الثالثة، وقف الكاتب بين تيارين متقابلين تجاه ركيزة النهوض الحضاري: تيار يعتقد "أن إرثنا الثقافي كله أو جله ظلام وعتمة ولا أمل في نهضة إلا بالتنصل منه والاتكاء بالكلية على الآخر"، وتيار آخر يرى أن النهضة المنشودة لا تتأتى للأمة إلا بالتشبث والعناية الفائقة بالثوابت، وأهمها الوحي. وإلى هذا التيار الأخير ينحاز الكاتب لأنَّ العدول عن الثوابت، في نظره، يؤدي حتماً إلى نتيجتين: الاغتراب في الذات (إحساس الفرد بعجزه عن تغيير واقعه) والاغتراب في الآخر (انبهار بالآخر يؤدي إلى الذوبان في هويته).

وفي المحطة الرابعة عرَّج الكاتبُ على منطق الثنائيات الهدامة الذي يرى ضرورة التحرر منه. فعملية النهضة في نظره تستوجب الخروج من براثن ثنائية الخطأ والصواب في نطاق الاجتهاد والفكر الإسلاميين، لما تؤدي إليه من إقصاء وتفريق وتبديع وتكفير في مسيرة النهوض.

وقد خصص الكاتب كلمته الأخيرة للتنظيمات الإسلامية الإرهابية التي يرى أنها "داءٌ عضالٌ أرهق الأمةَ في وقتنا الراهن، وفتنةٌ حاكها أعداء الإسلام بعناية فائقة" تحت قناع السلفية.

ويرصد الكاتب تطوُّراً في فهمه لظاهرة الحركات المتطرفة، فلم يكن في حسبانه من قبل أن وراء بعضها "عقولا مفكرة، أو نخبةً حاقدةً مثقفةً ثقافة دينية واسعةً تُنَظِّرُ لها ما ترتكب من أعمال وخراب". وقد أشار إلى ركائز هذه الجماعات وأصولها. وعلى أساس هذه النظرة يدعو إلى "محاربة هذه الجرثومة بوسائل علمية وبشكل منهجي تُفند مستندَ معتقدِهم وتُزيح اللثامَ عن منهجهم الحركي". وقد اختتم المؤلف هذه الكلمة برسم خارطة طريق نحو "استئصال شأفة هذا الورم الخبيث". وتتمثل الخارطة في تفكيك خطاباتها وإعادة بنائها، والتعامل مع النصوص التراثية على أنها غير معصومةٍ في ذاتها، لا سيما إذا وُجد فيها ما يتناقض مع أصول الدين ومقاصد الشريعة النبيلة.

وفي الختام تعرَّض الكاتب لقضية الهُويَّة التي يعتبرها خارج موضوع الدراسة في حقل النهوض الحضاري، لأن القضية الأساسية التي طرحها القرآن الكريم هي قضية الوحدة لأمة التوحيد، وليست قضية هوية وإن كانت تتضمنها.

وهذه هي خلاصة ما خرجنا به من قراءة هذا الكتاب للأستاذ محمد غلاي انجاي، وهو كتاب صغير في حجمه، ولكنه قيم في محتواه، ومهم في موضوعه، وسياقه، ومقاربته النقدية، وخاصة في مراجعته لأدبيات الفكر الإصلاحي في العالم الإسلامي؛ وإن كان الكاتب في بعض الأحيان يقع في ما ينتقده، وخاصة منطق ثنائية الصواب والخطاء في الفكر حينما يقول عن أمر يعتبره حقيقةً "لا ينكره إلا مكابر أو عديم الإنصاف أو مفرط في الجهل"، وقوله : " وهذه حقائق دامغةٌ لا يجادل اليوم حول صحتها إلا مكابر متآمر آثر الأولى على الآخرة"، أو حينما يسوق فكرةً لا يبرهن عليها أو لا يورد أدلة كافية لتقريرها، كقوله عن الحركات المتطرفة "وإن تمَّت فبركتها وهندسة قوالبها من الخارج"، فهو لم يأت بأدلة علمية أو دراسات تثبت هذه الحقيقة.

وعلى العموم، ينم الكتاب، بعمق تحليلاته، وجمال أسلوبه، ووضوح طرحه، عن سعة اطلاع مؤلفه، وتمكُّنه من لغة الضاد، وحسه المرهَف تجاه قضايا أمته.

                                                                                 د. سام بوسو عبد الرحمن

                                                                                   بروكسيل 6 يوليو 2024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...