الخميس، 18 سبتمبر 2008

واقعنا الاجتماعي وضرورة تجديد أصول الفقه

بقلم
الحاج موسى فال
باحث وأستاذ في كلية الدعوة الإسلامية
ببيرPir

المقدمة :
إن الدين توحيد بين البعد الأزلي الروحي والواقع الظرفي المادي، وهكذا كان النموذج الشرعي الأول نمطاً مثالياً أوجد واقعاً معيناً في عهد التنزيل من قيم الحق والعدل الخالدة وهيأ بذلك منهج العبادة الأمثل لله، ومع مرور الزمن وتعاقب الأجيال ، تتبدل الظروف النفسية والثقافية والاجتماعية والمادية التي كانت قاعدة للنموذج الأول فيقتضي ذلك نظراً وعملاً متجددا لبناء نموذج جديد في مغزاه الديني ، وهكذا كان علماء هذه الأمة على اجتهاد مستمر لتحقيق ذلك الهدف الرباني الأصيل ، ألا وهو تضييق الشقة بين النص الإلهي المثالي والواقع البشري المتقلب، ويسميه الدكتور حسن الترابي بالتدين .
ومن تلك الاجتهادات نشاة علم أصول الفقه . إن الدراسة لتاريخ هذا العلم تبين أنه مر بمراحل تاريخية مختلفة، عالج في كل مرحلة منها إشكاليات وأبعاداً جديدة اختلفت عن تلك التي عالجها في المرحلة السابقة لها، وذلك بغية تحقيق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية والواقعية التي واجهته في كل مرحلة... فإذا اعتبرنا الإمام الشافعي المحطة الأولى، نجد أن جهده في كتابه " الرسالة " تمثل في ضبط مسيرة الاجتهاد بجمع أشتات مناهج الاستنباط التي كانت في عصره، وعرضها في صورة منظمة، وجعلها علماً متناسق الأجزاء، إلا أن تدوين الإمام الشافعي لعلم أصـول الفقه لا يعنى اكتمال هـذا العلم بحيث لم يُبق مجالاً لمن بعده، بل إن الفكر الأصـولي شهـد بعد الإمام الشافعي تطوراً في الشكل والمضمون، بسبب تـنوع مدارك وتخصصات العلماء الذين بحثوا في هذا العلم – محـدثون، ولغويـون، وعلماء كلام، وغيرهم- وكذلك بسبب دخول فن التصنيف، والترتيب على كل العلوم، بما فيها علم أصول الفقه.
ولعل أهم محطة في التجديد الأصولي بعد الإمام الشافعي هو الإمام الرازي الجصاص (م370هـ) فـي كتابه "الفصول فـي الأصول" ، الذي تضمن إضافات على مستوى المضمون والشكل. فعلى مستوى المضمون أكمل المباحث اللغوية، ومدلولات الألفاظ، والموضوعات المشتركة بين الكتاب والسنة، والمباحث التي تستقل بها السنة عن الكتاب، كما طور البحث في دليل الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبحث الاجتهاد..
كما مثل كتاب " المستصفى " لأبى حامد الغزالي (م 505هـ) محطة مهمة في تجديد علم أصول الفقه، إذ تضمن إضافة نوعية على مستوى المضمون تمثلت في مقدمة في مدارك العقول، وقد تبنى الأصوليون بعد الإمام الغزالي هذه الهيكلة، الأمر الذي جعل كتاب "المستصفى" نقطة الاستقرار لكل من المضمون والشكل في مجال أصول الفقه إلى غاية القرن الثامن الهجري، حيث مثل كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي نقلة نوعية في علم أصول الفقه.
هكذا حتى وصلنا إلى محطة المعاصرين، لا شك أن أهم إشكالية أثارتها قضية تجديد الفقه الإسلامي اليوم هي تجديد علم أصول الفقه، لأن المعاني لابد أن تنزل على الواقع، ولابد من النظر إلى المتغيرات والابتلاءات، فتنزل المبادئ والأصول عليها، وتتسع لاستيعابها بمرور الزمان والمكان. لقد تنزل القرآن داخل الحياة عبر تفاعلات وابتلاءات تواصلت لبضع وعشرين سنة، بغية تشكيل النموذج، وهو نموذج مرن يستوعب بما يستجد من متغيرات في الواقع.
وإذا جاءت رمضانياتكم المباركة كعادتها طارحة هذه القضية ، فإننا لا نملك إلا مباركتها والمناشدة بها داعيا للقائمين عليها والمبادرين إليها أن يجهلها الله في ميزان حسناتهم يوم القيامة ، كما نتشرف بتقديم هذا البحث المتواضع للمساهمة في هذا العمل الإسلامي الجليل.

1- وقفة مع المصطلحات

ا - مفهوم علم الاجتماع
يعتبر علم الاجتماع من علوم الإنسانية ، وليس من العلوم التجريبية ، وهو علم يعنى بالجماعات البشرية والتفاعلات المختلفة والعلاقات بين أفراد هذه الجماعات. يعتبر أوغست كونت من أهم الباحثين في علم الاجتماع ، بل يعتبر المؤسس الغربي له إلا أن الكثير من العرب يعتبرون عبد الرحمن بن خلدون بملاحظاته الذكية في طبائع العمران البشري التي دونها في مقدمته الشهيرة المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع.
علم الاجتماع هو إذن دراسة الحياة الاجتماعية للبشرِ، وهو توجه أكاديمي جديد ً تطور في أوائل القرن التاسع عشرِ ويهتم بالقواعد والعمليات الاجتماعية التي تربط وتفصل بين الناس ليس فقط كأفراد، لكن كأعضاء جمعيات ومجموعات ومؤسسات. علم الاجتماع يهتم بسلوكنا ككائنات اجتماعية؛
يعمل أكثر علماء الاجتماع في عدة اختصاصات، مثل التنظيم الاجتماعيِ، التقسيم الطبقي الاجتماعي، ؛ العلاقات العرقية ؛ التعليم؛ العائلة؛ عِلْم النفس الاجتماعي؛ عِلْم الاجتماع المقارن ؛ عِلْم الاجتماع الديني أدوار وعلاقات جنسِ؛ علم السكان؛ علم الشيخوخة؛ علم الإجرام؛ والممارسات الاجتماعية.
علم الاجتماع توجه أكاديمي جديد نسبيا بين علومِ الاجتماعيات الأخرى بما فيها الاقتصادِ، عِلْم السياسة، عِلْم الإنسان، التاريخ، وعلم النفْس.
ظهر علم الاجتماع كما هو حاليا كصياغة علمية في أوائِل القرن التاسع عشرِ كرَدّ أكاديمي على تحدي الحداثةِ: فالعالم كَانَ يتحول إلى كل متكامل ومترابط أكثر فأكثر، في حين أصبحت حياة الأفراد أكثر فردية وانعزالا.
تمنى علماء الاجتماع أَنْ يَفْهموا التحولات التي طرأت على المجموعاتَ الاجتماعيةَ، متطلعين لتَطوير دواءَ للتفككِ الاجتماعيِ.
ب - فروع العلوم الاجتماعية العامة :
علم الانسان اقتصاد تعليم تاريخ لسانيات جغرافيا إدارة سياسة علم النفس علم الاجتماع قانون
ج - الحقائق الاجتماعية
هي مجموعة التغيرات والتفاعلات التي تؤدى إلى ظهور نمط متكرر ومستقر من السلوك يضع المجتمع في حالة تغيير مستمر وهى تشير إلى حالة حركة وتدافع وانتقال المجتمع من حالة إلى حالة اجتماعية جديدة)
وتكون هذه الحقائق نتيجة عمليات اجتماعية، مثل :
1.عمليات تتصل بالتفاعل بين الأفراد أى التجاذب والتنافر بين الأفراد
2.عمليا ت مجتمعية عامة وهى العمليات الكبرى التي تنقل المجتمع من حالة إلى أخرى مثل تحول المجتمع الريفي إلى حضر أو المجتمع الزراعي إلى صناعي
3.عمليات تتصل بنقل الثقافة مثل التنشئة الاجتماعية عبر الأسرة والمؤسسات التعليمية
تساعد نتائج البحث الاجتماعيِ قادة المجتمع من أكاديميين ،و خبراء التربية، ومشرّعين، ومدراء، وسياسيين وغيرهم ممن يهتمون ّ بفهم وحَل المشكلات الاجتماعية وصياغة سياسات عامة مناسبة للسكان .

2- معنى أصول الفقه

يقول الشيخ عبد اللّه دراز:
(تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة: مثل " لا ضرر ولا ضرار " الحديث، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وزْرَ أَخْرَى) (فاطر: 18). (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج) (الحج: 78).، "إنما الأعمال بالنيات" الحديث. وهكذا. وهذه تسمى أدلة أيضًا كالكتاب والسنة والإجماع. .
وتطلق أيضًا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية العملية منها، وهذه القوانين هي من الأصول. فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية.
فالقاضي أبو بكر الباقلاني ومن وافقه: على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررًا في النهاية أن ما كان ظنيًا يطرح من الأصول.
والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، ولذلك يرى العلماء أن القطعية هي من الأدلة الأربعة الأساسية ، أو المصادر الرئيسية : الكتاب والسنة و الإجماع و و القياس. وأما الظنية فتتمثل في الأدلة أو المصادر الفرعية ، وهي كثيرة جدا منها : المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وسد الذرائع وغيرها. ومن جهة أخرى تعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى نشأة وتنوع المذاهب الفقهية.
يقول د يوسف حامد العام : " الأدلة الشرعية المتفق عليها عند جمهور العلماء هي الكتاب والسنة و الإجماع والقياس ، وهناك أدلة أخرى ملحقة بهذه الأربعة ، ولكنها لم تحظ باتفاق الأئمة المعتبرين . . . وقد ذكر منها القرافي في كتابه تنقيح الفصول تسعة عشر دليلا "

1-الأدلة الأربعة الأساسية :
يقول الإمام الفخر الرازي رحمه الله إن أكثر أصول الفقه مجموعة في آية واحدة وهي قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا1 النساء / 59

القرآن الكريم :

وهو أول الأدلة الشرعية ، وقد اهتم به الأصوليون وعرفوه على أنه كلام الله المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، معجزة ألفاظه ، متعبد بتلاوته ومنقول إلينا بالتواتر2 .

السنة :
والسنة عند الفقهاء هي تطلق على ما يقابل الفرض ، وهذا عند الشافعية والمالكية والحنابلة ، وأما الحنفية فهي ما قابل الفرض والواجب 3.
وفي اصطلاح الأصوليين هي : أقوال الرسول )ص) وأفعال وتقريره .
ومثال القول : كقوله : إنما الأعمال بالنيات . . .
ومثال الفعل : ما نقله الصحابة عنه في شؤون العبادة مثل أءاد الصلوات ، مناسك الحج ، آداب الصيام . . .
مثال التقرير : مثل ما صدر عن بعض الصحابة ولم ينكره عليهم ، بل سكت عنه مع استحسان مثل ما حدث في غزوة بني قريظة عندما قال لهم : ) لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة . . . ) فصلى البعض ، وامتنع البعض فأخر إلى ما بعض المغرب ، وبلغ النبي )ص) ما فعل الفريقان ولم ينكر عليهما.
ومثال ذلك أيضا : عند ما آكل خالد بن الوليد الضب الذي قدم إلى الرسول )ص) ولم يأكل هو . فسئل هل هو حرام أكله ؟ فقال لا ولكن ليس في أرض قومي فأجدني أعافه 4
وأما حجية السنة في التشريع الإسلامي فتظهر في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : ) وما ينطق عن الهوى . . . ) .

الإجماع :
يعرف الأصوليون الإجماع على أنه :" اتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة على أمر من الأمور" 5 .
ومعنى الاتفاق هو الاشتراك في القول أو في الفعل او في الاعتقاد . والمقصود بأهل الحل والعقد هم المجتهدون في الأحكام .
و تتجلى حجية الإجماع في النصوص التالية : يقول القرآن الكريم : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس "6 ، ويقول أيضا : " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوليه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " 7

وأما النصوص السنية فيقول الرسول )ص) : " لا تجتمع أمتي على الضلالة " 8
القياس :
وهو إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص في الحكم الشرعي المنصوص عليه لاشتراكهما في علة هذا الحكم . وله أربعة أركان : المقيس عليه والمقيس والحكم الشرعي والعلة .
وأما حجيته فتوجد في هذه الآية : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " لأنه رد الفرع الذي لا نص له إلى الفرع الذي فيه نص ، والنص إما كتاب أو سنة9
تلك هي الأدلة الشرعية الأربعة ، فهناك أدلة فرعية أخرى وهي كثيرة ، وأشهرها عند المالكية هي : المصلحة المرسلة، والاستحسان، والعرف، ، والاستصحاب ، وسد الذرائع ، وعمل أهل المدينة .
والمهم من هذا العرض البسيط لمصارد أصول الفقه الإسلامي هو قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب الأفعال والأحداث زمانا ومكانا.


٢ تجديد أصول الفقه بين المؤيدين والمعارضين

إن التجديد في علم أصول الفقه، والسعي إلى توضيح هذه الأصول والاجتهاد فيها بما يتفق مع تطورات العصر الحديث قد أصبح من ضروريات هذا الزمن.
وقد دعا بعض علماء المسلمين إلى إعادة النظر في تصنيف الأصول التي يتم على أساسها استنباط الأحكام الفقهية استنادا إلى أنها ظنية، وليست قطعية لأنها من الاجتهاد البشري . في الوقت الذي يرى آخرون بأن الأصول لا يمكن أن تكون إلا قطيعة لكونها مصدر التحكم عند الخلاف.
من الفريق الأول : الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ، والدكتور الترابي ، الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم حيث أكد أنه "لا بد من القيام باجتهاد جديد لعلم أصول الفقه، خاصة أن علم الأصول الموجود بين أيدينا اليوم يتناول قضايا فرعية لا تتحقق منها الفائدة المرجوة".
وألمح إلى أن " تدريس أصول الفقه في الجامعات لا يجب أن تكون الغاية منه مجرد تدريس مادة يمتحن فيها الطلاب، بقدر ما تكون نقطة بداية لتكوين ملكة عقلية اجتهادية.. يستطيع بها صاحبها أن يكون مجتهدا مجددا، كي يتم إثبات صلاحية الشريعة الإسلامية لكل مكان وزمان".10
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
يدور السؤال حول كلمتين أساسيتين هما: التجديد.... وأصول الفقه.
أما كلمة "التجديد" فقد اقترنت بها ملابسات تاريخية جعلت كثيرًا من المتدينين الملتزمين يتخوفون من إطلاقها.
والتجديد الحقيقي مشروع بل مطلوب في كل شيء: في الماديات، والمعنويات، في الدنيا والدين، حتى إن الإيمان ليحتاج إلى تجديد، والدين يحتاج إلى تجديد.
وفى الحديث الذي رواه عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم " 11 وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (صححه العراقي وغيره، وذكره في صحيح الجامع الصغير) المهم هو تحديد مفهوم التجديد ومداه
وإذا كان الشارع قد أذن " بتجديد الدين " نفسه، وعرف تاريخ المسلمين فئة من الأعلام أطلق عليهم اسم « المجددين » من أمثال الإمام الشافعي والإمام الغزالي، وغيرهما. . . فلا حرج علينا إذن من " تجديد أصول الفقه "
وما هو " أصول الفقه "؟
إنه العلم الذي وضعه المسلمون ليضبطوا به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. وبعبارة أخرى: العلم الذي يضع القواعد الضابطة للاستدلال فيما فيه نص، وفيما لا نص فيه.
وإذا كان " علم أصول الفقه " قد وضعه المسلمون بالأمس ووسعوه وطوروه ابتداء من " رسالة " الإمام الشافعي (ت: 204 هـ) إلى " إرشاد الفحول " للإمام لشوكاني (ت: 255 هـ) إلى مؤلفات المعاصرين. . . فلا عجب أن يقبل التجديد اليوم. المسلمون هم الذين أسسوه، وهم الذين يجددونه.

كل العلوم الإسلامية قابلة للتجديد. الفقه وأصوله، والتفسير، وعلم الكلام، والتصوف، بل الواجب على الأمة متضامنة أن تعمل على تجديد هذه العلوم كلها.
وما دامت علوم الفقه والتفسير والكلام والتصوف قابلة للتجديد، بل محتاجة إليه، فلماذا لا يدخل " علم أصول الفقه " ضمن هذه المنظومة؟
وهذا هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: قال في إحدى رسائله: (فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفرعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- وجماهير أئمة الإسلام.
وإذا كان بعض مسائل الاعتقاد قابلاً لأن يدخل دائرة الاجتهاد، فأولى منه بالدخول بعض مسائل "أصول الفقه "، على الرغم مما شاع لدى كثير من الدارسين أن أصول الفقه قطعية، وأن الأصول إذا لم تكن قطعية ودخلها الاجتهاد كغيرها، لم يعد لنا معيار نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع ! 12
يقول الإمام الشوكاني في " تحقيق الحق " فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه اللّه المؤهلات لِوُلُوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل".
الأمر الذي يجب تأكيده بقوة هو أن ما ثبت بدليل قطعي لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه. فإن هذه " القطعيات " هي عماد الوحدة الاعتقادية والفكرية والعملية للأمة. وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطرب. ولا يجوز لنا التساهل مع قوم من الأدعياء، يريدون أن يحولوا القطعيات إلى محتملات، والمحكمات إلى متشابهات، ويجعلوا الدين كله عجينة لينة في أيديهم يشكلونها كيف شاءت لهم أهواؤهم، ووسوست إليهم شياطينهم.
ولقد بلغ التلاعب بهؤلاء إلى حد أنهم اجترءوا على الأحكام الثابتة بصريح القرآن، مثل توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، فهم يريدون أن " يجتهدوا " في التسوية بين الذكر والأنثى! بدعوى أن التفاوت كان في زمن لم تكن المرأة فيه تعمل مثل الرجل! وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن المرأة وإن عملت وخرجت من مملكتها وزاحمت الرجال بالمناكب تظل في كفالة الرجل ونفقته: ابنة وأختًا وزوجة وأمًا، غنية كانت أو فقيرة، وأن أعباءها المالية دون أعبائه، فهو يتزوج فيدفع مهرًا، ويتحمل نفقة، وهي تتزوج فتأخذ مهرًا، وينفق عليها، ولو كانت من ذوات الثراء.
وبلغ التلاعب ببعضهم أن قالوا: إن الخنازير التي حرمها القرآن وجعل لحمها رجسًا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتربى تحت إشراف لم تنله الخنازير القديمة.
وأن الصوم يعوق التقدم والتنمية.
وهكذا يريد هؤلاء لشرع اللّه أن يتبع أهواء الناس، لا أن تخضع أهواء الناس لشرع اللّه (وَلَو اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَوَاتُ وَالأرْض وَمَن فِيهِنَّ)13.

٣ واقع العالم الإسلامي من منظور علم الاجتماع

يقول الدكتور محمد عبد اللطيف البنا المحررالمسئول عن النطاق الشرعي بشبكة إسلام أون لاين إن "القضايا الفقهية قديما كانت بسيطة تفرزها الحياة البسيطة، وحلها لم يكن يستغرق الكثير من الجهد والوقت، أما في العصر الحديث فقد وجدت كثير من القضايا المتشابكة، والمتشعبة، والمتداخلة بين أكثر من علم تحتاج لحلول فقهية خاصة".
مضيفا أنه "نظرا لأن التطور في عصرنا صار أكبر من أن يحصى، وأن الفقهاء عليهم أن يبينوا آراءهم في المستجدات، ولأن الأمور كذلك أصبحت متشابكة ومعقدة أحيانا... فكان لا بد من وضع الضوابط التي تحكم سير الفقيه في الحكم على النازلة، حتى يمكن من خلال هذه الضوابط أن نقلل نسبة الخطأ وأن نصل بالنازلة لحكمها الفقهي السليم".
ويمكن القول إذن أن المجتمع الإسلامي اليوم من منظور اجتماعي يتميز بتغيرات سريعة وواسعة النطاق ، شملت جميع مجالات الحياة ، وذلك نتيجة ضغط الحداثة والعصرنة والعولمة الطاغية على جميع بقاع العالم ، وهي تمثل النموذج الغربي للحياة التي افرزها عاملان تاريخيان خطيران ، وهما : النهضة الأوروبية والثورة الصناعية.
وأما أهم مميزات المجتمع الإسلامي اليوم والتي تحتم على الأمة إعادة النظر في أصول الفقه فيمكن إجمالها في الاتي :
في الجانب الاجتماعي : اغتصاب بعد النساء المؤمنات أثر الحروب مثل ما حدث في حرب البوسنك والهرسك ، وقضية إجهاض؟ .
في الجانب الاقتصادي : كيفية حل الاختلافات حول التعامل مع البنوك الربوية ؟ والموقف الشرعي من الفوائد المصرفية ؟
في الجانب الديني : مشكلة الردة ؟
في الجانب العلمي : كيفية التعامل مع الاكتشافات العلمية مثل : استنساخ الأجنة؟
في الجانب السياسي : كيفية التوفيق بين ضرورة طلب الحكم والالتزام بتعليمات الرسول الناهية عن طلب الولاية ؟
كيفية التعامل مع الأقليات المسلمة في الغرب ، هل الغرب دار الحرب أم دار السلم ؟
كل هذه الأمور المستجدة في العالم الإسلامي تدعو إلى ضرورة تجديد أصول الفقه التي نعتمد عليها لإصدار الفتاوى التي تساعد المسلمين على تحقيق عبادة الله في الأرض ، وهي سبب وجود الإنسان على سطح المعمورة ،" وما خلقت الجنة والإنس إلا ليعبدوني"

٤ التجديد الذي ننشده
إن التجديد الذي ننشده ينبغي أن ينطلق من منهج دقيق تتضح من معالمه عدم إغفال الواقع، والوقوف على حقيقة الأمر المستجد، والتكييف الفقهي الصحيح له، والتمهل قبل إبداء الرأي الفقهي المناسب، والتفريق بين فتاوى الأمة، وفتاوى الأفراد، مع ضرورة أن يكون ذلك كله مستلهما من مقاصد الشريعة الإسلامية.
إن التجديد الإسلامي الأصيل الذي ندعو إليه يرفض التقوقع والانكماش - يقوم على أسس ، فقوامها ما يأتي :

1 - عدم الخلط بين منابع الدين الإسلامي "الشريعة"، وبين "الفقه الإسلامي"؛ لأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، صلاح السنن التي تحكم هذا الكون وتسيره، أما الفقه فهو كسب بشري. يتغير زمانا ومكانا ، جماعة وأفرادا.

2 - التمسك بالأصول الشرعية والأحكام القطعية وعدم تجاوزها؛ لأنها تضمن للفقه الإسلامي أصالته، وللفكر انتظامه من جهة، ولأنها من جهة أخرى تمثل جانب "الوحي" الذي يرشد العقل ويوجه التفكير ويقوم مساره.

3 - الاسترشاد بمنهج علم الحديث في التعامل مع "السنة" قبولا ورفضا، والاعتماد على مناهج أصول الفقه، في التعامل مع النص فهما واستنباطا.
4 - اجتناب ذلك النوع من الاستلاب الثقافي والعقدي للأمة من خلال ظاهرة التقليد الأعمى للمناهج الغربية، ومنها الدعوة لتعدد قراءة النص الشرعي، بهدف تحنيط تلك النصوص، أو جعلها تاريخا، ونزع القداسة عنها، وإلغاء العمل بها و رفض الدعوة إلى إعادة تفسير التراث طبقا للواقع، لأن الهدف من ذلك هو تجاوز ما لا يتفق من الدين مع الواقع بما يهدم الدين.
أن من مخاطر الدعوة لتعدد قراءة النص الشرعي جعل الدين عرضة للتجديد المستمر حتى ينتهي تماما، وإزالة قدسية القرآن الكريم من النفوس وجعله كأي كتاب أدبي، وإعطاء الحق لفهم القرآن حسب قراءة كل فرد له، وجعل الواقع حاكما للشرع.

ومن أهم مميزات التجديد المنشود م يلي :

  • عدم تجزئة الفقه الإسلامي إلى أقسام منفصلة بعضها عن بعض : فقه العبادات ـ فقه المعاملات ـ. . . بل ضرورة اعتماد المقاربة المنظومية.
  • ضرورة إدخال علوم أخرى في الدراسات الفقهية مثل علم الأخلاق و القانون الدستوري.
  • إدخال حاجيات أخرى في مقاصد الشريعة العامة – حفظ الدين . . .- قضية حقوق الإنسان.
  • إعادة ترتيب المقاصد : مقاصد الفرد ، مقاصد المجتمع ، مقاصد الدولة.
  • تجريد الأصول من علم الكلام والمنطق .
  • اعتماد الاجتهاد الجماعي أي إشراك تخصصات متنوعة عند إصدار الفتوى .
  • إعادة النظر في مناهج الدراسة قي الكليات الشرعية.
  • تجريد الأصول من القواعد التي لا تنبني عليها الفروع العملية.


والله ولي التوفيق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...