في نشرة سابقة قمتُ
بإيراد مواقف من الوسطية والاعتدال من
كبار السلفية تجاه بعض الصوفية، بهدف لفت
أنظار بعض الاخوة الذين يميلون نحو التعميم
في أحكامهم ولنفس الغرض أود آتي هنا بمواقف
مثالية من كبار الصوفية تجاه غيرهم.
وفي البداية، أود أن
أوضح حقيقة لا يلتفت إليها كثير من الناس،
وهي أن التصوف منهج لتربية النفس ولتصفية
القلب، ولم يكن المتصوفة فرقة مقابلة للفرق
العقدية كالأشعرية والماتريدية والمعتزلية
أو المذاهب الفقهية كالحنبلية والمالكية
والشافعية ولذلك نجد في جميع المذاهب
والتيارات تقريبا علماء متصوفين وأنصارا
للتصوف ، كما تلفى أيضا فيها علماء ينكرون
لأهل التصوف اتجاهم ويرون فيه ابتداعا
في الدين أو انحرافا عن جادة الصواب. وعلى هذا المنطلق نوضح
بعض مواقف المتصوفة، ليس تجاه فرقة معينة
بالذات بل تجاه منكري التصوف بشكل عام.
ولإبراز هذه المواقف
الإيجابية من الصوفية لا نبتعد كثيرا،
بل نكتفي بنموذج الشيخ الخديم (رضي الله
عنه) الذي كرس حياته لإحياء السنة النبوية
وتربية الناس بالهمة ويرى نفسه مجددا
للدين، يقول :
دينٌ سوى إسلامه لا
يُحمد --- عـنـــد
الإلـــه وبه نجدد
نويتُ قودَ من يلوذون
بيــــــا --- إليكَ
مع سنة خير الانبياء
فقد قدم الشيخ الخديم(ض)
في مسيرته الجهادية دروسا في سعة الصدر
والبعد عن التعصب الطائفي أو المذهبي؛
فقد اتصل بأغلب مشايخ عصره في منطقته بصرف
النظر عن انتماءاتهم الطرقية، واعترف
بجهودهم العلمية والدعوية.
وقد بين الشيخ محمد
الأمين جوب كاتب سيرته تفاصيل هذه الاتصالات في كتابه
إرواء النديم.
وفيما يتعلق بالانتماءات
المذهبية الفقهية، فقد اعتبر جميع المذاهب
الفقهية السنية مرجعيات له يقول :
أئمتي في
الفقه مالكُ العالي ----
والشافعي والحنفي
والحنبلي
وأما توجيهه لأتباعه
بالتزام المذهب المالكي فيمكن تفسيره
بحرصه الشديد على توحيد صفوف المسلمين،
حيث كان السواد الأعظم من أهل المنطقة
ملتزمين بهذا المذهب.
وفيما يتعلق بموقفه من
منكري علوم التصوف فهو موقف المشفق على
هؤلاء المنكرين المندهش من رفضهم لما يرى
في معرفتها من فوائد وفي جهلها من مخاطر،
يقول في المسالك
وكيف يُنكرُ علومًا قومُ
--- معرفــــةٌ
بهـــا لــعـــبد غــنــــم
أو كيف يحتقر ذو العقل علوم --- مبدأها زهد وغبُّها نعيم
وكيف تُنكر علومٌ ثبتت --- وشأنَ أهلِ الخير قد تضمَّنت
تضمنت خصالَ الانبياء --- وصالحي الخلــق والاولــيـــاء
أو كيف يحتقر ذو العقل علوم --- مبدأها زهد وغبُّها نعيم
وكيف تُنكر علومٌ ثبتت --- وشأنَ أهلِ الخير قد تضمَّنت
تضمنت خصالَ الانبياء --- وصالحي الخلــق والاولــيـــاء
يتعجب الشيخ من إنكار
التصوف، لأن الصوفي حسب فهمه هو العالم
العامل بعلمه بكل إخلاص السائر على الصراط
المستقيم المتصف بالأخلاق الحميدة، يقول
في تعريفه للصوفي:
والحاصلُ:
الصوفيُّ عالمٌ عملْ
--- بعلمه
حقيقةً ولم يمل
فصار صافيا من الأكدار --- ممتلئَ القلب من الأفـكــــار
منقطعاً لربه من الـبشــــر --- مُسوِّيا دينــــارَ عين بالـمدرْ
كالارض يُرمى فوقها كلُّ قبيح -- ولايُري من بطنها إلا مليح
يطأها الـكريُم واللـــئيمُ --- والبــرُّ والعاصي وتستــــديم
وكسحابٍ وكقطر الماء --- في الظلِّ والسَّقْي بلاستشناء
ومن يكن كذاك فهْوَ صوفي --- أو لا، فذو دعوى على المعروف
فصار صافيا من الأكدار --- ممتلئَ القلب من الأفـكــــار
منقطعاً لربه من الـبشــــر --- مُسوِّيا دينــــارَ عين بالـمدرْ
كالارض يُرمى فوقها كلُّ قبيح -- ولايُري من بطنها إلا مليح
يطأها الـكريُم واللـــئيمُ --- والبــرُّ والعاصي وتستــــديم
وكسحابٍ وكقطر الماء --- في الظلِّ والسَّقْي بلاستشناء
ومن يكن كذاك فهْوَ صوفي --- أو لا، فذو دعوى على المعروف
إن الشيخ لا يصف منكري
التصوف بالمبتدعين أو بالمارقين، بل
يعتبرهم مقصرين ومعرَّضين لأمراض القلوب
الفتاكة ويشفق عليهم، وهذه الشفقة والرحمة
شعور يكنه الشيخ في واقع الأمر للخلق
أجمعين، كما يتجلى ذلك في كتاباته فنحن
نراه يبتهل إلى مولاه بهذا الدعاء
يا مالك الملك يا من
جلَّ عن قود ---- ارحمْ
جميعَ الورى يا هادئا ردءا
وأما تعاليم الشيخ تجاه
أفراد الأمة الاسلامية فيمكن إبزار ثلاثة مبادئ أساسية منها وهي:
١- التوسط
في جميع الأمور بتجنب الإفراط والتفريط
يقول رضي الله عنه
" ولا
تكن مفرطا أو مفرطا --- بل
استقم في سنة وأقسطا
٢- تقديم
الأخوة الإيمانية بعدم معاداة من ينتسب
إلى الاسلام ويتطق بالشهادة "لا
اله الا الله" مهما
كان الاختلاف معه في وجهات النظر كما قال
" ولا
تعادوا من رأيتم فاه ---
يخرج لا إله إلا
الله"
٣- ضرورة
محبة كل مومن لإيمانه بصرف النظر عن
موافقته أو مخالفته
" وأحبب
المومن للإيمان --- ولتبغض
الكافر للكفران
٣- ضرورة
مراعاة الآداب مع المخالف وعدم توجيه ما
يمكن أن يجرح شعوره اليه.
يقول في منظومة نهج
قضاء الحاج:
" ولا
تقلْ لأحد كذبتَ --- أوقلتَ
غير الحق أو أخطأتَ
وهذه التعاليم النظرية
نجد تطبيقات حية لها في الواقع الملموس
ولكني أود أن أشير هنا إلى أمثلة قريبة
تجسدها؛ فها هو الشيخ صالح خليفته الخامس
يقف موقف الدفاع والحماية لإحدي أهم
الحركات الاسلامية في السنغال، فما زال
مسئولوا هذه الحركة يعترفون بأن الشيخ
صالح هو الذي حماها من قرار حكومي بحلها
بفضل تدخله في التسعينات من القرن الماضي.
و هذه الحركة لا
تحسب في التيار الصوفي.
ولا زلنا نتذكر
أيضا قيام الشيخ صالح أيضا بشراء مقر إحدي
المنظمات الاسلامية العاملة في باريس
ووضعه تحت تصرف المسلمين بعد أن كان مهددا
بالاستيلاء من قبل أحد البنوك.
وقد قام أخوه الشيخ
محمد المرتضى مؤسس المعاهد الأزهرية بعمل
مشابه في داكار لصالح إحدي الجمعيات
الاسلامية.
فهذه الأمثلة الحية
تجسيد لتعاليم الشيخ الخديم التي تدعو
إلي نية الخير لكل مسلم صوفيا كان أم منكرا
للتصوف وتساعد على توحيد صفوف المومنين
على كلمة سواء لبناء مجتمع صالح قوي قادر
على الاعتماد على ذاته بالعمل والخدمة،
مجتمع يسوده التحابب والتفاهم وينجو من
داء الشقاق والتفرق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق