تشهد الساحة السنغالية في هذه الأيام نقاشا حادا حول العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية أو بين الحقل الديني والسياسي، وقد احتدم هذا النقاش في خضم الأحداث السياسية الأخيرة؛ فقد أصدر بعض رجال الدين "أوامر" لتأييد أحد المترشحين في الانتخابات الأخيرة و صرح أيضا الرئيس المنتخب بأن الشيوخ "مواطنون عاديون"مما أثار ضجة إعلامية وجدلا حاميا حول الدور السياسي للشيوخ، ووضعهم في الحياة العامة.
وفي مثل هذا السياق يصبح من الضروري تناول تلك العلاقة بالدراسة والمناقشة لما يمكن أن يتنج من التباسها من سوء فهم يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة تضر بدين الناس ودنياهم.
ولمعالجة هذه الإشكالية في الواقع السنغالي، نتعرض أولا لهذا التقسيم بين الروحي والزمني في نظر الإسلام ثم مواقف العلماء تجاه العلاقة بين الدين والسياسة قبل محاولة تحديد شروط التعايش بين السلطة الزمنية والدينية في وضعنا الراهن.
I-الروحي والزمني في منظور الإسلام
إن نظرة الإسلام إلى العلاقة بين الروحي والزمني أو بين الدين والدنيا تختلف عن النظرة السائدة في أديان أخرى مثل المسيحية، حيث ذاعت مقولة " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله!" وحيث وُجدت مؤسسة كنسية ممثلة للسلطة الروحية ودولة تختص بالسلطة الزمنية.
ولكن، ربما يكون من التبسيط مجرد القول بأن الإسلام يقف على الطرف النقيض من المسيحية، لأن العلاقة بين الروحي والزمني في الفكر وفي التاريخ الإسلاميين معقدة وديناميكية، تحتاج معالجتها إلى النظر إليها على صعيدين: الصعيد النظري (نصوص الدين) والصعيد التاريخي (تاريخ المسلمين ).
فمن خلال النصوص نلاحظ أنه لا يوجد فصل أو قطيعة بين الروحي والزمني والدنيا والدين؛ فغاية وجود الإنسان على ظهر الأرض في نظر الإسلام هي تقوية صلته بخالقه عن طريق عبادته " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وأما الحياة المادية التي تقوم على عمارة الأرض فهي شرط لتحقيق تلك الغاية، وعلى سبيل المثال، ألا يمكن أن يتصف سلوك الحاكم بصبغة روحية حين يتحرى العدالة ويطبق مبادئ الشوري في حكمه ابتغاء لمرضاة الله وامتثالا لتعاليمه السامية التى تتعلق بحقوق العدل مثل قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل" (النحل : 90)، وقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء :58)،؟
ومن ناحية تاريخ وفكر المسلمين تتجسد مسألة الروحي والزمني في العلاقة بين الدين والسياسة أو بين الدين والدولة أو بين رجال الدين والساسة وهي إشكالية أثارت وما زالت تثير جدلا بين علماء المسلمين، وقد اختلفت مواقفهم فيها.
II- مواقف العلماء حول العلاقة بين الروحي والزمني
من المعروف أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان الفصل في أمور الدين والدنيا بيد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان صاحب السلطتين الزمني والروحي، واستمر الأمر على هذه الحالة في عهد الخلفاء الراشدين.
ولكنه، منذ اندلاع النزاع والصراع حول الخلافة الإسلامية واستيلاء الأمويين عليها بزعامة معاوية حوالي سنة ٤٠ هجرية وظهور الاستبداد والجور لدى عدد من الحكام، اتخذ كثير من علماء المسلمين موقف الانعزال عن السياسة وأمور الحكم ورأوا ضرورة ترك شؤون السلطة للأمراء والسلاطين والتفرغ للعبادة والتربية. وقد شاعت آثار في ذم اختلاط العلماء بالسلاطين؛ وقد برز هذا الموقف لدى أهل السنة وخاصة لدى أهل التصوف، ومع ذلك ظلت الشريعة الإسلامية المرجع الأساسي في إدارة شؤون المسلمين.
ومن ناحية أخرى ذهب علماء آخرون إلى أن الدين لا ينفصل عن الحكم فمارسو السياسة وتولو مناصب سياسية وبعضهم كتبوا عن قيمة السياسة بالمفهوم الإسلامي، أمثال الإمام الغزالي والماوردي وابن تيمية وابن خلدون وغيرهم.
وفي إطار التاريخ الحديث، بعد احتلال كثير من البلدان الإسلامية وانهيار الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية سنة ١٩٢٢م، خضعت مناطق عدة في العالم لحكومات غير إسلامية تطبق سياسة علمانية مستنبطة من الغرب وفُصل الدين عن الدولة وظهرت فيها السياسة بالمفهوم الغربي المكيافلي.
وفي هذا السياق تباينت مواقف العلماء حول ممارسة السياسة في هذه البيئة إلى عدة اتجاهات منها:
أ- ضرورة عدم الاختلاط بين علماء الدين وأهل الحكم، وذلك موقف الرافضين للاشتغال بالسياسة وشؤون الحكم بسبب ما فيها من الفساد الأخلاقي والتكالب على الدنيا.
ب- عزل الدين عن السياسة، وهو موقف المتأثرين بالعلمانية الغربية القائلين بأن الإسلام دين لا دولة استنادا إلى الحديث المنسوب إلى النبي صلي الله عليه وسلم " أنتم أعلم بشؤون دنياكم"
ج- اعتبار السياسة من صميم الدين، وهذا موقف القائلين بأن الإسلام دين ودولة ، وأبرزهم في العصر الحاضر الإخوان المسلمين والسلفيون في بعض البلدان. ولا يختلف الوضع في السنغال عن غيره في كثير من دول العالم الإسلامي.
III شروط التعايش بين السلطة الدينية والسلطة الساسية في الوضع الراهن
على الرغم من اختلاف المواقف حول العلاقة بين الدين والسياسة أو بين الروحي والزمني ، فإننا نواجه في السنغال وضعا متميزا وهو تواجد سلطتين لهما تأثير لا يمكن إنكارها في حياة المواطنين وهما السلطة الروحية المتمثلة في الطرق الصوفية والمؤسسات الدينية والسلطة الزمنية المتمثلة في الدولة ومؤسساتها ولا يوجد أي إطار يحدد وينظم نوعية العلاقة بينهما فكلاهما تعمل وفقا لأعرافها وتقاليدها، وتتوقع أن ترجح كفة ميزان القوى لصالحها يوما من الأيام، ويحتدم الخلاف حول أيهما أولى بالتقديم حين تجتمعان.
وهذا الوضع يتطلب التفكير في تحديد علاقات واقعية تسهل التعايش بينهما تتجاوز قضية تقديم إحداهما على الأخرى، وعلى هذا نرى أنه يجب أن تتوفر لهذا التعايش شروط معينة، منها:
- احترام المبادئ
معرفة مبادئ الإسلام والعمل به لدى رجال الدين ونزاهية السياسيين في تسيير الشأن العام شرط لتعايش يخدم مصلحة المواطنين الدينية والدنيوية، فلا بد للمؤسسات الدينية من النهوض بواجباتها في تربية الناس وتوعيتهم وتقديم مثل عليا من الاستقامة والجدية، كما أنه لا بد للسلطة الحاكمة من السهر على خدمة المصلحة العامة دون تسخير السياسة لإشباع رغباتها المادية أو استغلال العوام.
- تحديد وضعية المؤسسات الدينية ضمن المنظومة القانونية للبلاد
يلاحظ أن وضعية المؤسسات الدينية أو الشيوخ لم تتحدد في قانون البلاد؛ فوضعهم رهن لموازين القوى، وقد جرى العرف علي المداراة فيما بين السلطتين الزمنية والروحية. وقد ظهر في الآونة الأخيرة اتجاه من غلاة العلمانيين إلي تجاهل مكانة زعماء الدين ومحاولة تضعيفهم لسحب نفوذهم لدى الناس أو عرقلة دورهم في المجتمع واعتبارهم "مواطنيين عاديين" في الوقت الذي يلعب هؤلاء أدوارا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية
قد تعجز الدولة عن القيام بها، ومن جانب آخر يوجد من يستغل مكانتهم الدينية لتحقيق مكاسب سياسية، وهذا الوضع تهديد للتعايش والتعاون لمصلحة البلاد.
- سهر السلطة الزمنية على ضمان حق المواطنين في تسيير شوونهم الدينية بحرية تامة
حين يشعر المواطنون بأن السلطة الزمنية لا تضمن لهم الحقوق المتعلقة بحياتهم الدينية وتتستر وراء العلمانية، قد يضطر هؤلاء إلى التقوقع على أنفسهم ومحاولة الابتعاد عن سيطرة هذه السلطة وعدم الإحساس بالمواطنة الكاملة وهذا الشعور قد يدفع المؤسسات الدينية إلى اتخاذ مواقف مناهضة للنظام.
- كفالة حرية جميع المواطنين في المشاركة الديموقراطة بظرف النظر عن اتجاههم الديني وعدم استغلال الدين لأغراض سياسة
فليس هناك بد من إفساح المجال لجميع الآراء والاتجاهات بما فيها الاتجاه الديني للمشاركة في اللعبة السياسية ومن جانب أخري لا ينبغي استغلال الدين لأغراض سياسية نفعية آنية.
- بناء العلاقة بين السلطة الزمنية والروحية على أساس المصالح العامة لا على حساب المواطنين
لا يمكن التنكر للنفوذ الساسي للشيوخ غير أن هذا النفوذ لكي يكون إيجابيا ينبغي أن يوظف كوسيلة للضغط على السلطة الزمنية وتوجيهها نحو خدمة المصلحة العامة وحماية حقوق الضعفاء وضمان العدالة الاجتماعية للجميع.
الخاتمة
رأينا أن تعاليم الإسلام لا تفصل بين الروحي والزمني وأن تاريخ الإسلام شهد علاقات متنوعة بين السلاطين ورجال الدين وأن مواقف العلماء في العلاقة بين الدين والدولة قد تباينت.
وفي الواقع السنغالي نلاحظ وجود وضع خاص يقتضي تحديد شروط التعايش بينهما، في ظل مناخ ديموقراطي لم تترسخ بعد قواعدها، وإن كان من حق كل ذي رأي أو موقف أن يدافع عن موقفه مع احترام مخالفيه في الرأي.
* أصل هذا المقال محاضرة أعددتها لليوم الثقافي لدائرة مفاتح البشر بجامعة غاستون برجه UGB بمدينة سانت لويس
انا استحسن الاراء الواردة فيه غاية الاستحسان،وأتمنى لو ترجمتها الى الفرنسية وتنشر في الصحافة الوطنية، وهناك غياب تام لوجهة النظر المخالفة، وجهة النظر الإسلامية الموازية، فكلهم علمانيون ولا يفعلون الا ترديد أفكار أساتذتهم من الغرب،وأنا أظن أنه حان الأوان لأن نفكر بطريقة مغايرة، أن نفكر بعقول سنغالية واعية تعرف كيف تبني مستقبلها وكيف تحافظ على مصالحها الذاتية بدون املاء من الخارج، وان شاء الله سأدون تعليقاتي وملاحظاتي ريثما أحصل على متسع من الوقت وسارسلها اليك او انشرها كتعليق
ردحذفشكرا على التعليق
ردحذفونحن نرحب بآرائكم حول القضية لقد اطلعتُ على جانب منإسهاماتكم القيمة حولها