إني
لأشعر في أعماقي، حين أسرح تفكيري في حياة
الشيخ أحمد بمب ـ رضي الله عنه ـ بجوانبها المختلفة، أنها
ليست حياة عادية، وأن ما أنجزه في مجالات
مختلفة ليس من وحي ذهنية عبقرية صرفة ولا
وليد ظروف تاريخية مواتية فقط، بل إنه
ثمرة عناية إلهية ربانية.
فسيرة
الشيخ المتميزة ونظرته الثاقبة لأمور
الحياة وتعامله مع الأحداث وتصرفه في
الأمور ومواقفه في القضايا المعرفية توحي
بوجود عناية إلهية مؤثرة وموجهة لاختياراته.
و هذه العناية تجلت منذ بداياته في منشئه وبيئته
الاجتماعية وما فيها من صفاء، وهي بيئة
أسرية موغلة في التدين ألِف فيها الشيخ منذ
نعومة أظفاره النسكَ والعباة ونهل من
مناهلها العلمية والثقافية؛ وتبرز هذه
العناية أيضاً في عواملَ عدةٍ وفَّرتها
له في حياته: طفولةٌ صقلتها أحداث الجهاد وتقلبات الأوضاع
السياسية، شبابٌ أنضجه التفكير في تردي
أوضاع المجتمع (وقد
شخَّص هذه الأوضاع في كتابه "مسالك الجنان " وهو في
الثلاثينات من عمره)،
روحُ تغيير لم تعبها عجلةُ فُتوَّةٍ ولا فرطُ حماسة، همةٌ عالية تندحر أمامها شمُّ الجبال
الشاهقات من الصعوبات والعراقيل النفسية
والثقافية والاجتماعية جعلته يرنو إلى
أسمى الغايات وأشرفها، علاقاتٌ اجتماعية
متوازنة فرضت احترامه وتوقيره على الضعفاء
والأقوياء ورجالِ الدين والطغاة على حدّ سواء.
أضف إلى هذه العوامل بيئةً سياسية غنية بالأحداث
والمليئة بالدروس قد انعكست على مرآة بصيرةٍ مُهيَّئةٍ صافيةٍ وقدرةً فائقة على
التحليل والتشخيص وعلى التحرر من قيود العادات
والأعراف المكبلة.
وهذا
التحرر من العادات الراسخة والثقيلة
والعقليات المتزمتة المنافية لدينامكية
التجديد كوَّن لدى الشيخ، إلى جانب العوامل
الأخرى، شخصيةً قادرةً على تشكيل رؤيةٍ روحانية تجديدية تحريرية صبغت جميعَ تصرفاته، وساعدته على إعادة صياغة الحياة
العقلية لمجتمعه تمهيدا لتأسيس نظرة جديدة إلى الكون
والحياة تتفق مع روح الاسلام وغاياته،
وقد نجح بشكل باهر في:
- تغيير المفاهيم السلبية لمصطلحات شائعةِ التداول في الحياة العادية أو في الحقل الصوفي وشحْنها بمعانٍ إيجابية تختلف مع مفاهيمها العادية ( فُلَّ، فَيْدَ، فُويُو، مَوُ … زهد، توكل، شكر...) فنجد في روايات كثيرة له على شكل حوارات مع أتباعه يبدأ كل حوار بـ"ما معنى كذا عندكم ؟ ثم يأتي هو بتفسيره أو تعريفه الخاص .
- إضفاء طابع رمزي جديد على البيئة المادية من خلال تسميات غير مالوفة ذات دلالات موحية تربط الوعي الاجتماعي للأفراد بفضاء إسلامي روحاني أوسع دون استنساخ معطيات الثقافة العربية كما هي (أسماء القرى: دار السلام طوبى دار المنن دار القدوس دار الرحمن دار العليم الخبير روض الرياحين - أسماء الحقول : بستان العارفين ... )
- إعادة بناء التركيبة الاجتماعية من خلال استبدال نسق القيم الإسلامية بمنظومة القيم المجتمع الطبقي التقليدي وتشكيل علاقات اجتماعيات جديدة مبنية على التضامن والتعاون والخدمة ومن خلال استئصال التصورات الخاطئة المترسبة حول العمل والاحتراف والزواج.
- تجديد الفكر الإسلامي وتخليصه من رواسب المذهبية الضيقة والعصبية البالية ومن القراءات الجزئية التي تخضع للمحددات البيئية والثقافية للمجتمعات الإسلامية مع تقديم ما يحتاج إليه مسلموا عصره في حياتهم على شكل خلاصات رائقة تهديهم إلى الصراط المستقيم وتنجيهم من متاهات النظريات والتأويلات والافتراضات والخلافات العقيمة.
- وضع أسس كفيلة بإزالة الحواجز العقدية والمذهبية والطائفية بين المسلمين لتمهيد الطريق نحو تكوين مجتمع إسلامي متسامح ومتماسك يتخلص من أدواء العداوة والعصبية والتقوقع على الذات.
فهذ
الإنجازات وغيرها لا يمكن تحقيقها بدون
تجاوز العقبات المترسبة فكريا وثقافيا
واجتماعيا في ميدان الاجتهاد عبر تاريخ
الإسلام للاستمداد بشكل مباشر من المورد
الأساسي والاتصال بالمصدر الأول، منبع
الهداية الإلهية خاتم الأنبياء والمرسلين
صلى الله عليه وسلم، بعناية ربانية ضمانا
من الله لتجدُّد دينه واستمرارية رسالته
وتمام نوره، وفي هذا المنظور أفهم -
بعقلي المحدود -
قول الشيخ الخديم
رضي الله عنه:
"بان لكل من له ولايه *** كوني لخالق البرايا آيه"
سام
بوسو عبد الرحمن