بعد أكثر من سبع سنوات في الغربة، عاد الشيخ أحمد بمب رضي الله تعالى عنه إلى السنغال في يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1902م، ونزل في ميناء دكار، بعد رحلة بحرية دامت 12 يوما، حيث غادرت السفينة التي أقلَّه مدينةَ ليبرفيل يوم الخميس 30 أكتوبر 1902م، ومرت بداومي، وغران بصام، وكوناكري قبل أن تصل إلى دكار.
وكانت هذه العودةُ حديثا تاريخيا تحمل دلالاتٍ كثيرةً؛ ففي منتصف القرن التاسعَ عشر الميلادي ظهر الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه في الساحة الدينية حاملا رسالة ربانية وقائما بمهمة تجديدية، وكان غرب إفريقيا في هذا الظرف يتعرض لحملة استعمارية شرسة كانت ترمي إلى استغلال البلاد وطمسِ هوية السكان واستعبادِهم.
وكان الجهاد الذي رفعه الشيخ يمثل مقاومةً تهدد مشروعَ المحتل الفرنسي بالإفشال، لأنه رضي الله عنه كان يغرس في نفوس أتباعه التوحيدَ لله تعالى، والتحررَّ من ربقة أي سلطة غير سلطته سبحانه وتعالى، وينمي فيهم روحَ العمل والاعتمادِ على الذات والثقةِ بالنفس.
وعلى هذا الأساس قررت سلطات الاحتلال إخراجَه من وطنه ومن بين أهله وأتباعه بتلفيق تُهمٍ باطلةٍ من خلال محاكمةٍ هزَلية في الخامس من سبتمبر 1895م في مدينة اندر عاصمة المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا.
وهكذا، غُرِّب الشيخ رضي الله تعالى إلى جزر الغابون النائية، فقضى في هذه الغربة سبع سنوات وبضعةَ أشهر متحملا ما لا يمكن تصوره من أنواع التعذيب والاضطهاد، ولكن هذه المعاناة لم تضعضع من عزمه وهمته في عبادة الله تعالى وخدمة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كانت الغربةُ نعمةً في طيِّ نقمةٍ ومنحةٍ في صورة محنةٍ.
وكانت عودتُه بسلامٍ من هذه الغيبة انتصاراً للإسلام وهزيمةً لمشروع المحتل في وأد دعوته وتشتيت مريديه، ورمزا للشجاعة والمثابرة؛ وهي تنطوي في حقيقة الأمر على دروس بليغة، منها:
أولا: أن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف، وقد وعد بنصر المومنين في قوله تعالى "وكان حقا علينا نصر المومنين" ولن يخذلهم أمام الكافرين كما في قوله تعالى "ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا". وهذا الوعد الصادق يفرض على المسلم أن يراجع إيمانه ويثق بربه ليحظى بنصرته وحمايته.
ثانيا: أن المعركة بين الحق والباطل مستمرة في الحياة، ولكن الباطل مهما قويت سطوته، لا يمكن أن يصمد أمام الحق، كما قال الشيخ الخديم :
الحق ثابتُ وأما الباطل وإن علا فساهق وسافل
وإذا أدرك صاحب الحق المتمسكُ بمبادئه هذه الحقيقة يهون عليه ما سيعانيه من أهل الباطل، فيتحلى بالصبر والمثابرة، ويضع أهدافه نصب عينيه.
ثالثا: أن جهاد الشيخ رضي الله تعالى عنه بالوسائل السلمية (العلوم والتقى) كان أخطر على أعداء الإسلام المحتلّين من مواجهتهم بالأسلحة التقليدية؛ فقد قاومهم لوحده، وكان الانتصار لدين الإسلام، وقد تنبَّه لهذا البُعدِ العلامةُ الشيخ سعد أبيه، فهنَّأ الإسلام بعودته قائلا:
هنيئاً لذا الدينِ الغريب الذي غدا يتيهُ سرورا منكم وافتخارا
رابعا: أن إعلان الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه عن عفوه الشامل عمن ظلموه واضطهدوه بعد عودته دليلٌ واضح على كونه رمزاً للسلام والسماحة؛ فقد قدَّم درسا بليغا للبشرية بنجاعة المنهج السلمي الذي أثبت فعاليتَه أمام غطرسة السلطات الاحتلالية، وحافظ على دعوة الشيخ وتربته ومشروعه بشكل عام.
فهذا طرفٌ من الدروس التي يمكن استخلاصُها من هذا الحدث المتميز في التاريخ الإسلامي، وهو حدثٌ يجسِّد روحَ الإيمان والثقةِ به والتفاني في خدمة الإسلام، ويرمز إلى نجاعة الجهاد السلمي الذي خاضه الشيخ رضي الله تعالى عنه، وإلى فشل المشروع الاستعماري في وأد دعوته، كما تحمِلُ دلالاتٍ أخرى عديدةً تستحق الدراسةَ والتأمَّل.
د. سام بوسو عبد الرحمن
مقالات ذات صلة
دراسة حول الأبعاد الدينية والاجتماعية للمغال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق