الخميس، 7 ديسمبر 2023

مقصد الترك أومفهوم البدعة في نظر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه


عُرف العلامةُ الأصولي المحقق الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله تعالى- بمشروعه الفكري التجديدي، وهو مشروع يقوم على أساس البحث عن الحلول الناجعة لما يعانيه العالم الإسلامي من الأزمات والمشكلات التي تعرقل مسيرتها وتثبط همَّتها في النهوض بقيادة البشرية على ضوء القيم الإسلامية السمحة.

ويُعنى الشيخُ في كتاباته بإبراز مكامِن الزلَل الفكري المُؤدي في كثير من الأحيان إلى خلافاتٍ وتجاذباتٍ، بل إلى تبديع وتفسيق أو تكفير طرف لطرف آخر. والشيخ لمعرفته بخطورة الفهم القاصر وآثاره السلبية في العيش المشترك، والانسجام المجتمعي، والتناسق الفكري، بين المسلمين، نراه يقف مع بعض القضايا الشائكة وقفة تحليلية؛ يحرر محل الخلاف ومناط الحكم فيها، ويعرض الآراء الفقهية بكل إنصاف، ويناقش الأدلة مناقشة دقيقة، يقيد شوراد المسألة لتشكيل صورة واضحة عن القضية بحيث تصبح الأمور في أحجامها الحقيقية، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.

ومن هذه المسائل التي عُني الشيخ بها عناية فائقة، وغَفَل عنها الكثير، “مقصدُ الترك” الذي يسميها بـ"بدعة الترك”، وقد عالجها في كتابه الماتع القيم "مشاهد من المقاصد"[1] معالجة عميقة تكشف عن هذا الهم الإصلاحي الذي يحمله من أجل تفكيك وصياغة المفاهيم الرائجة الملتبسة لدى كثير من الناس والتي تتسبب في تعميق الخلافات بين المسلمين.

فقد بدأ الشيخ بتعريف هذا المفهوم، ويعني "فعل أمر في محلٍ تُرك من قبل الشارع" قبل أن يورد مواقف العلماء تجاهه؛ فهذه المسألة - حسب رأيه الثاقب- مسألة اجتهادية دقيقة، انقسم حولها العلماءُ على مذهبين: مذهب لا يعتبرها دليلا إلا على مجرد رفع الحرج، لا سيما فيما له أصل جملي، فيكون المتروك معروضا على عموم الأدلة الأخرى، ومذهب يرتب عليها حكم الكراهة أو التحريم.

فأصحاب المذهب الأول هم الذين يُقسِّمون البدعةَ إلى خمسة أقسام وفق الأحكام الشرعية الخمسة، وهم الشافعية ومتأخرو المالكية والإمام النووي والإمام ابن عبد السلام والقرافي وغيرهم، ويرون أن الترك ليس دليلا لأن الشارع يقول " وما نهيتكم عنه فانتهوا" ولم يقل: وما تركت. ورأي هؤلاء مبني على أن البدعة حقيقةٌ فيما لم يُفعل في الصدر الأول حسنا كان أو قبيحا، وأن جميع ما ورد في البدعة من نحو قوله عليه السلام "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وأن العبادات والعادات متساوية في لحوق البدع.

وأصحاب المذهب الثاني يرون أن ترك الشارع لفعل أو لكيفية دليل على قصده عدمَ الإتيان بالفعل أو بالكيفية، وأن إقدام المكلَّف على فعل في محل الترك ابتداعٌ في الشرع، وأبرزهم ابن تيمية والشاطبي وابن القيم. ويذهب هذا الفريق إلى أن الترك من السنة.

لم يأل العلامة الشيخ عبد الله جهداً في إيراد الأدلة ومناقشتها، وفي ذكر عدد من المسائل المختلف فيها بناء على هذا الأصل "مقصد الترك"، ومنها على سبيل المثال: الدعاء بعد الصلاة جماعة، وقراءة القرآن جماعة في المسجد بصوت واحد، والتوسل بالأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهنا نلاحظ أن الشيخ يميل إلى تأييد القول بأن “الترك لا يدلُّ على الحظر ولا على الكراهة، بل إنه يدل على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه هو الأولى، لكن لا إنكار في فعل ما تركه”، وقد ساق عدةَ أوجهٍ يذكرها أصحابُ هذا الرأي ومنها:

← قد يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدل إلا على رفع الحرج، مثل تركه أكل الضب وأكل طعام فيه ثوم؛

← قد يترك صلى الله عليه وسلم بعض المستحبات خوفا من أن تفرض على أمته؛ كما في قول عائشة رضي الله عنها: " وما سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الصحى قط وإني لأسبحها”.

← قد يترك عليه السلام أمراً لكونه خلاف الأولى، ويفعل المتروك في أوقات نادرة لبيان الجواز، مثل تنشيف أعضاء الوضوء بالمنشفة.

← نجد الصحابة يعملون بعض القربات في مقام الترك دون سؤال، مثل مواظبة أحد الأنصار على قراءة سورة الإخلاص في صلاته. وفي الحج ثبت أن بعض الصحابة كان يلبي تلبية فيها زيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل، وزيادة ابن عمر: والخير بيديك والرغباء إليك.

ويزيد الشيخ- جزاه الله خيرا- أن القول بكون الترك من السنة يخالف تأكيدَ العلماء حصرَ الأصوليين السنةَ التشريعية على القول والفعل والتقرير، كما ورد في بداية المجتهد “الشريعة تتلقى من ثلاث طرق هي اللفظ والفعل والإقرار”.

وفي معرض ذكر تلك الأوجه يُشير الشيخ إلى إشكالٍ يتعلق بفعل السلف حين يُنقل عن بعضهم دون بعض، فهل يكفي ذلك لنفي صفة البدعة عنه عند الفريق الأول أم لا؟

ومن أمثلة ذلك: تتبُّع عبد الله بن عمر لآثار النبي عليه السلام للتبرُّك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، واستسقاء شخص (إما صحابي أو تابعي) عند القبري النبوي بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ"استسق لنا".

فمن بين الفريق الأول من يعتبر ذلك بدعة فاحشة مع ورود أثر فيه، وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله وفي استعمال المجاز في الإسناد".

هكذا استعرضنا بكل إيجاز كيف عالج الشيخ هذا الموضوع بموضوعية وإنصاف، ويمكن أن نلمس من خلال معالجته للمسألة واهتمامه بها هذا الاهتمامَ البالغ، في سياق حديثه عن المقاصد الشرعية، نزعتَه إلى تجديد المفاهيم، ونفض ما علق عليها من غبار التعصب الفكري المؤدي إلى تبديع المخالف أو تكفيره دون أساس علمي قوي. فهذه المعالجة الأصولية الدقيقة ليست ترفا فكريا إنما تنصب في صلب مشروع الشيخ الرامي إلى دراسة المفاهيم التي يُساء فهمُها وتوظيفُها ، فتصبح ذريعةً إلى تشتيت وحدة الأمة؛ ومن هذه المفاهيم الرائجة مفهوم البدعة، وقلَّما اعتني بها العلماء في الدراسات الأصولية والفقهية مع كونه من أبرز ما يُغذي الخلافات والسجالات بين الصوفية والسلفية في الوقت الراهن.
                                                                               د. سام بوسو عبد الرحمن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...