الخميس، 21 ديسمبر 2023

وأقيموا الشهادة لله!

من النادر أن نكتب شهادةً لحي يرزق، ولكنني هذه المرة أود أن أخالف هذا العرف السائد وأسجل شهادة للتاريخ، بعد إذاعة الخبر السارّ المتعلق بإنشاء إدارة وطنية للمدارس القرآنية في وزارة التربية الوطنية، وإسنادها إلى زميلنا المفتش بابكر صامب.

إن قرارَ رئيس الجمهورية تحويلَ مفتشية المدارس القرآنية إلى إدارة وطنية لم يأت، في الحقيقة، من فراغ؛ فوراء هذا القرار جهودٌ جبارة بذلها مخلصون عديدون متفانون في خدمة التعليم القرآني في البلاد، منذ أكثر من عقدين من الزمن.
فقد مرّت بعدة محطات تلك المحاولاتُ والمساعي التي كانت ترمي إلى تعزيز مكانة التعليم القرآني على المستوى المؤسساتي وإدماجه في النظام التربوي الرسمي، وظهرت مبادرات عدة في الساحة من جهات رسمية، ومن منظمات غير حكومية، ومن مسؤولي مدارس قرآنية ومحبين للقرآن الكريم.
ومن أبرز هذه البرامج والمبادرات في السنوات الأخيرة إقامةُ مشروع لدعم عملية تحديث المدارس القرآنية PAMOD وإنشاءُ مفتشيةٍ للمدارس القرآنية داخل وزارة التربية.

ولكن الفضل في اتخاذ هذا القرار التاريخي بإنشاء إدارة وطنية يرجع بشكل كبير إلى المفتش السيد بابكر صمب وفريق عمله.
فقد نجح السيد بابكر وأعوانه في بلورة رؤية واضحة لسياسة تطوير المدارس القرآنية ورسم استراتجيات فعالة لتنفيذ هذه السياسة، وتمكن بفضل ما يتمتع به من حكمة ورزانة ودماثة وانفتاح من تعبئة الكفاءات المختلفة اللازمة لتسيير مشاريع المفتشية بشكل جيد. وقد أسعفته - بحمد الله تعالى - شخصيته المتوازنة والمتواضعة ومستواه الأكاديمي والمهني في كسر الحواجز اللغوية والثقافية التي تعرقل العملَ الجماعي في كثير من مشاريعنا المهمة.

حقيقةً، كانت مفتشية المدارس على مستوى التحديات في الوقت الذي كان التعليم القرآني ومدارسه يعاني مشكلات في الداخل، ويواجه هجمات من الخارج، وأصبحت كل محاولة للإصلاح أو للدفاع عرضة للاتهام، أظهرت بحنكة مديرها قدرةً فائقة في المشي على طريق وعر مع تجنب الكثير من المزالق الطائفية والسياسية والأيديولوجية.
وكان النجاح الباهر في تنظيم أول مسابقة دولية لحفظ القرآن الكريم في السنغال في الأسبوع الماضي تتويجاً لجهود المفتشية. ومن هنا نرى أن تعيين الأخ المفتش بابكر مديراً لإدارة المدارس القرآنية لم يكن اعتباطا ولا تحابيا وإنما استحق هذا المنصب بكل جدارة.

وهذا التعيين، من ناحية أخرى، وسام على صدر جميع المستعربين؛ فقد برهن الأخ بابكر وغيره من زملائنا أصحاب المسؤوليات العليا أن على الدولة أن تستفيد أكثر من كفاءات المستعربين في تسيير شؤون البلاد بفضل ما يتمتعون به من مواصفات يحتاج إليها المجتمع.
ونحن إذ ندوِّن هذه الشهادة لا يعزب عن بالنا أن المسؤولية جسيمة، وأن المهمة ثقيلة، إلا أننا متفائلون كل التفاؤل وواثقون كل الثقة في عون الله تعالى.

نسال الله تعالى أن يوفق أخانا بابكر ويوفق كلَّ من يعمل لصالح نظامنا التربوي عموما والتعليم العربي الإسلامي خصوصاً.

الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

وداعا أيها الصديق الوفي!

كنت أبحثُ عن كلمات تعبر عن شعوري عند انتشار النبأ المفزع والمفجع، وكأنها تفر مني ولا تريد أن تسعفني، بقيت لحظات لا أستطيع أن أصدق أن صديقي وزميلي قد فارق الحياة، وهو في أوج العطاء التربوي، وافته المنية في ميدان الجهاد، والسلاح بيده، كان يُلقي درساً لم تكن حصته قد حانت، كان يقدم حصة الجمعة في مساء الثلاثاء، كأنه في سباقٍ مع الزمن ليؤدي ما عليه.
لم يكن المرحوم بإذن الله تعالى الدكتور مصطفى جوم مجرد زميل لي، بل كان صديقا وحبيبا، كنتُ أتلمس في حديثه معي أمارات المحبة والاحترام.
رافقني لأكثر من عشر سنوات في المفتشية الأكاديمية بتياس، وكان خير رفيق وخير ناصح وخير مستشار. وكان يخفف عني الكثير من المهام.
لا أعرف أكثر منه دماثة وأحسن منه خلقا، ومن أبرز أخلاقه الإيثار والتواضع والحلم.
كان نموذجا في الإخلاص في العمل والتفاني في الخدمة، كان يحمل معه همَّ التعليم العربي الإسلامي أينما حل. كان مثالا في علو الهمة والجدية والمثابرة. كان من فرسان الجهاد التربوي أينما أعلن، ولم يكن التحزُّب يجد إليه سبيلا، وكان قياديا شجاعا جريئا في مواقفه ووفيا لمبادئه.
لا نملك إلا أن نقول : "إنا لله وإنا إليه راجعون" سائلين الله سبحانه وتعالى أن يرحمه رحمةً واسعة ويسكنه في الفردوس الأعلى ويلهم أهله من أقاربه وزملائه الصبر والسلوان.

الخميس، 7 ديسمبر 2023

مقصد الترك أومفهوم البدعة في نظر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه


عُرف العلامةُ الأصولي المحقق الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله تعالى- بمشروعه الفكري التجديدي، وهو مشروع يقوم على أساس البحث عن الحلول الناجعة لما يعانيه العالم الإسلامي من الأزمات والمشكلات التي تعرقل مسيرتها وتثبط همَّتها في النهوض بقيادة البشرية على ضوء القيم الإسلامية السمحة.

ويُعنى الشيخُ في كتاباته بإبراز مكامِن الزلَل الفكري المُؤدي في كثير من الأحيان إلى خلافاتٍ وتجاذباتٍ، بل إلى تبديع وتفسيق أو تكفير طرف لطرف آخر. والشيخ لمعرفته بخطورة الفهم القاصر وآثاره السلبية في العيش المشترك، والانسجام المجتمعي، والتناسق الفكري، بين المسلمين، نراه يقف مع بعض القضايا الشائكة وقفة تحليلية؛ يحرر محل الخلاف ومناط الحكم فيها، ويعرض الآراء الفقهية بكل إنصاف، ويناقش الأدلة مناقشة دقيقة، يقيد شوراد المسألة لتشكيل صورة واضحة عن القضية بحيث تصبح الأمور في أحجامها الحقيقية، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.

ومن هذه المسائل التي عُني الشيخ بها عناية فائقة، وغَفَل عنها الكثير، “مقصدُ الترك” الذي يسميها بـ"بدعة الترك”، وقد عالجها في كتابه الماتع القيم "مشاهد من المقاصد"[1] معالجة عميقة تكشف عن هذا الهم الإصلاحي الذي يحمله من أجل تفكيك وصياغة المفاهيم الرائجة الملتبسة لدى كثير من الناس والتي تتسبب في تعميق الخلافات بين المسلمين.

فقد بدأ الشيخ بتعريف هذا المفهوم، ويعني "فعل أمر في محلٍ تُرك من قبل الشارع" قبل أن يورد مواقف العلماء تجاهه؛ فهذه المسألة - حسب رأيه الثاقب- مسألة اجتهادية دقيقة، انقسم حولها العلماءُ على مذهبين: مذهب لا يعتبرها دليلا إلا على مجرد رفع الحرج، لا سيما فيما له أصل جملي، فيكون المتروك معروضا على عموم الأدلة الأخرى، ومذهب يرتب عليها حكم الكراهة أو التحريم.

فأصحاب المذهب الأول هم الذين يُقسِّمون البدعةَ إلى خمسة أقسام وفق الأحكام الشرعية الخمسة، وهم الشافعية ومتأخرو المالكية والإمام النووي والإمام ابن عبد السلام والقرافي وغيرهم، ويرون أن الترك ليس دليلا لأن الشارع يقول " وما نهيتكم عنه فانتهوا" ولم يقل: وما تركت. ورأي هؤلاء مبني على أن البدعة حقيقةٌ فيما لم يُفعل في الصدر الأول حسنا كان أو قبيحا، وأن جميع ما ورد في البدعة من نحو قوله عليه السلام "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وأن العبادات والعادات متساوية في لحوق البدع.

وأصحاب المذهب الثاني يرون أن ترك الشارع لفعل أو لكيفية دليل على قصده عدمَ الإتيان بالفعل أو بالكيفية، وأن إقدام المكلَّف على فعل في محل الترك ابتداعٌ في الشرع، وأبرزهم ابن تيمية والشاطبي وابن القيم. ويذهب هذا الفريق إلى أن الترك من السنة.

لم يأل العلامة الشيخ عبد الله جهداً في إيراد الأدلة ومناقشتها، وفي ذكر عدد من المسائل المختلف فيها بناء على هذا الأصل "مقصد الترك"، ومنها على سبيل المثال: الدعاء بعد الصلاة جماعة، وقراءة القرآن جماعة في المسجد بصوت واحد، والتوسل بالأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهنا نلاحظ أن الشيخ يميل إلى تأييد القول بأن “الترك لا يدلُّ على الحظر ولا على الكراهة، بل إنه يدل على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه هو الأولى، لكن لا إنكار في فعل ما تركه”، وقد ساق عدةَ أوجهٍ يذكرها أصحابُ هذا الرأي ومنها:

← قد يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدل إلا على رفع الحرج، مثل تركه أكل الضب وأكل طعام فيه ثوم؛

← قد يترك صلى الله عليه وسلم بعض المستحبات خوفا من أن تفرض على أمته؛ كما في قول عائشة رضي الله عنها: " وما سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الصحى قط وإني لأسبحها”.

← قد يترك عليه السلام أمراً لكونه خلاف الأولى، ويفعل المتروك في أوقات نادرة لبيان الجواز، مثل تنشيف أعضاء الوضوء بالمنشفة.

← نجد الصحابة يعملون بعض القربات في مقام الترك دون سؤال، مثل مواظبة أحد الأنصار على قراءة سورة الإخلاص في صلاته. وفي الحج ثبت أن بعض الصحابة كان يلبي تلبية فيها زيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل، وزيادة ابن عمر: والخير بيديك والرغباء إليك.

ويزيد الشيخ- جزاه الله خيرا- أن القول بكون الترك من السنة يخالف تأكيدَ العلماء حصرَ الأصوليين السنةَ التشريعية على القول والفعل والتقرير، كما ورد في بداية المجتهد “الشريعة تتلقى من ثلاث طرق هي اللفظ والفعل والإقرار”.

وفي معرض ذكر تلك الأوجه يُشير الشيخ إلى إشكالٍ يتعلق بفعل السلف حين يُنقل عن بعضهم دون بعض، فهل يكفي ذلك لنفي صفة البدعة عنه عند الفريق الأول أم لا؟

ومن أمثلة ذلك: تتبُّع عبد الله بن عمر لآثار النبي عليه السلام للتبرُّك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، واستسقاء شخص (إما صحابي أو تابعي) عند القبري النبوي بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ"استسق لنا".

فمن بين الفريق الأول من يعتبر ذلك بدعة فاحشة مع ورود أثر فيه، وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله وفي استعمال المجاز في الإسناد".

هكذا استعرضنا بكل إيجاز كيف عالج الشيخ هذا الموضوع بموضوعية وإنصاف، ويمكن أن نلمس من خلال معالجته للمسألة واهتمامه بها هذا الاهتمامَ البالغ، في سياق حديثه عن المقاصد الشرعية، نزعتَه إلى تجديد المفاهيم، ونفض ما علق عليها من غبار التعصب الفكري المؤدي إلى تبديع المخالف أو تكفيره دون أساس علمي قوي. فهذه المعالجة الأصولية الدقيقة ليست ترفا فكريا إنما تنصب في صلب مشروع الشيخ الرامي إلى دراسة المفاهيم التي يُساء فهمُها وتوظيفُها ، فتصبح ذريعةً إلى تشتيت وحدة الأمة؛ ومن هذه المفاهيم الرائجة مفهوم البدعة، وقلَّما اعتني بها العلماء في الدراسات الأصولية والفقهية مع كونه من أبرز ما يُغذي الخلافات والسجالات بين الصوفية والسلفية في الوقت الراهن.
                                                                               د. سام بوسو عبد الرحمن

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...