الاثنين، 30 ديسمبر 2019

منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة . ... دور ريادي في نشر ثقافة السلم



بعد خمس سنوات فقط من العمل، فتح منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة أبوابَ أملٍ جديدٍ لتصحيح وتقويم كثير مما اعوجَّ في مسار الأمَّة الإسلامية والعائلة الإبراهيمية في القرون الأخيرة، من ناحية المفاهيم والأفكار والتصوُّرات، كما فتح قنوات التلاقي بين العالَمين الإسلامي والغربي، من خلال تحالفٍ لـ"أولي البقية" أو عقلاء البشرية يرعى القيمَ السامية على ظهر البسيطة.

بعد تشخيصٍ دقيقٍ لأحوال المجتمعات المسلمة وأوضاع العالم المعاصر، وما فيها من مفاهيم مغلوطة، وصراعات دموية، واستقطابات عنصرية، سعى المنتدى لوضع أسس علمية لبناء صرح فكري يأوي إليه أصحاب الهمم العليا من الأديان والثقافات المختلفة لاتخاذ مبادارات عملية في مجال حماية الحقوق ورعاية الضعفاء ونزع فتيل الصراعات في العالم.

وكان النجاح الذي حققه المنتدى في فترة قياسية يستند إلى رؤية سديدة، ووعي عميق، وفكر منير، وحس إنساني مرهف، لمؤسسه العالم الرباني الفقيه الأصولي الشيخ عبد الله بن بيه الذي سخَّر كل إمكاناته وخبراته لنسف الأفكار الهدامة وإحياء القيَم البناءة لصالح المجتمعات المسلمة وأبناء البشرية جمعاء.

وانطلاقاً من تأثيث الفضاء المعرفي بمفاهيم السلم من حيث التأصيل والتنزيل في سنة ٢٠١٤م، عُني المنتدى بتفكيك بنية الخطاب المتطرف ومعالجة الخلل المنهجي بجميع تمظهراته، وتلت هذه المرحلةَ عمليةُ تصحيح وصياغة المفاهيم الشرعية عبر تصحيح المفاهيم المفجرة.

وقد زاوج المنتدى بين المجال التنظيري والمجال التطبيقي في جهوده لتحقيق السلم وحماية الحقوق؛ فكان وراء " إعلان مراكش سنة ٢٠١٦م، حول حقوق الأقليات الدينية، بناء على وثيقة المدينة المنورة، فانبثق من هذه الجهود تيارٌ للسلم شمل الديانات الإبراهيمية، تمخض عن قوافل السلام الأمريكية وإعلان واشنطن لتحالف القيم سنة ٢٠١٨.

وفِي سنة ٢٠١٩ وقَّع ممثلون للعائلة الإبراهيمية على ميثاق" حلف
الفضول العالمي الجديد" بمناسبة الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم في أبوظبي، ويُمثل هذا التوقيعُ حدثا عالميا تاريخيا سوف تمتد آثاره على الأجيال القادمة إذا تَحققت الأهداف المرجوة منه. وقد استوحى هذا الميثاق حلف الفضول الذي شهده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان من أجل الدفاع عن حق المظلوم وإعانة المحتاج ونحوهما من القيم الإنسانية؛ وقد قال عنه «لقد شهدتُ فِي دَار عبد الله بن جدعَان حلفا، لَو دُعيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْتُ».

وقد لقي منتدى تعزيز السلم، بفضل أصالة رؤيته وانفتاح مقاربته، قبولا وترحيبا من العلماء والباحثين والمفكرين في مختلف أنحاء العالم وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء.
ففي شهر مايو ٢٠١٨ نظم المنتدى في دكار عاصمة السنغال يوما دراسيّاً حول "الأسس المنهجية لثقافة السلم عند معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه حاجة لتعزيز التعايش السلمي في السنغال".

ومن خلال المحاضرات والمعارض والكتب الموزعة والنقاشات حول فكر العلامة بن بيّه تجَلَّى اهتمامُ المفكرين والباحثين بالمقومات الكامنة في هذا الفكر التجديدي والتي من شأنها تصحيح كثير من المفاهيم المحرفة الخطرة على أمن واستقرار المجتمعات، وكان من بين المطالب في هذا اللقاء أن تكون تلك المبادرةُ انطلاقةً لنشر ثقافة السلم وتعزيزها في المنطقة بأسرها.

ويمثل ميثاق حلف الفضول الذي صدر في ديسمبر ٢٠١٩ بأبوظبي ضمن فعاليات الملتقى السادس للمنتدى أرضية صلبة لوضع استراتجيات فعالة في تعزيز قيم السلم والتسامح وخاصة من خلال المنظومات التربوية، كما ظهر ضمن توصيات الملتقى.

يمكن القول في نهاية المطاف بأن منتدى تعزيز السلم صحّح كثيراً من المفاهيم، وغيّر نظرة العديد من غير المسلمين نحو الإسلام، وفتح مجالا واسعا للتعاون بين الحريصين على السلام العالمي على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، وأصبح يتمتع بدور ريادي في نشر ثقافة السلم.

  سام بوسو عبد الرحمن
مفتش التعليم العربي بوزارة التربية في السنغال
مقالات ذات صلة 
 
 

الاثنين، 23 ديسمبر 2019

سَرينْ مُودُ خَرِ بوسو.. الإمام الورع!

يُعدُّ الإمام الورع والعلامة الشيخُ محمد بوسو المشهور بـ"سرين مود خر" من المريدين الصادقين الذين تربَّوا على يدي المجدد الشيخ محمد بن محمد بن حبيب الله خديم الرسول صلى الله عليه وسلم في بقعته المباركة في جربل.

ميلاده ونشأته ودراسته
ولد العلامة الشيخ مود خر بوسو في امباكي بوال Mbacké Baol سنة١٣١٥هـ( ١٨٩٧م)، في أسرة عريقة في التدين مشهورة بالعلم؛ فوالده هو الشيخ مصمب بوسو وهو أخ شقيق للعالم العلامة فريد عصره مفتي الديار السنغالية في عهده الشيخ امباكي بوسو رضي الله عنهما.

وأما والدته فهي السيدة التقية خديجة بوسو بنت الشيخ محمد بوسو الشهير بـ "سا بوسو" رضي الله عنهما. وفي هذه البيئة العلمية النقية وتحت سقف هذه الأسرة الطاهرة نشأ سرين محمد خر بوسو وتربى حتى بلغ سنَّ التعلم، فتولى ابن عمه (الشيخ محمد بوسو وهو أكبر أبناء الشيخ امباكي ووريثه علما ودينا ) تدريسَه القرآنَ الكريم حتى أتقنه حفظاً وتجويداً ورسماً في وقتٍ مُبكر من عمره. ودرس علم الفلك في مدينة اندر على يد عالم خبير بهذا الفن يسمى القاضي انجاي صار Ndiaye Sarr، رحمه الله تعالى.

إقامته عند الشيخ الخديم رضي الله عنه
وقد لازم الشيخُ مودُ أخاه المعلمَ ونهل من منابع علومه الصافية، وتلقى تربته السديدة، حتى تبحر في العلوم اللغوية والشرعية، وكذلك في علم الفلك. وتميَّز من بين أقرانه بشدة استقامته وورعه ووفرة أدبه، ثم ساقته يدُ العناية الإلهية سنةَ ١٩٢٢م إلى المرشد الأعلى والمربي المرقي الشيخ أحمد بمب رضي الله عنه. وكان الشيخ امباكي أرسله هو وأحد أبنائه الشيخ محمد الباقر إلى الشيخ في بقعته المباركة برسالة مفادها: أنهما بمثابة وعاءين نظيفين مُجَهَّزين بعثا إلى صاحب الطعام ليملأهما.

وقد مكث بجانب الشيخ المربي برهةً من الزمن ارتوى خلالَه من بحار أنواره الربانية، وكان مقرباً إليه ومهتما بجمع أقواله ومآثره وبحفظها وروايتها.

وبعد أن حظي برفقة الشيخ والتربي على يديه عاد إلى جانب عمه الشيخ امباكي بوسو في قريته كيدي Guédé، وقد كانت مركز إشعاع علمي يؤمه المتعلمون من جميع الجهات.

اشتغاله بالتربية والتعليم والإمامة
وفي كيدي كرَّس بقيةَ عمره المديدة المباركة في نشر أنوار المعارف الإسلامية، وفي تربية الأجيال، فدرس على يده خلقٌ كثير أسبغ الله تعالى عليهم بركاته، فصاروا علماء نابغين، من بينهم:

الإمام الشيخ عبد الرحمن المشهور بسرين اندام امبرSerigne Ndam Mbar والد كاتب هذه السطور.
سرين عبد أست انجاي Serigne Abdou Astou Ndiaye بن سرين ماندومبي امباكي
سرين قاسم ابن الشيخ محمد المرتضى امباكي
سرين مور جوج فالSrigne Mor Diodia Fall
سرين سير كن Serigne Saer Kane
سرين محمودا امباكي ابن الشيخ محمد جارة
سرين عبد الغفور امباكي ابن الشيخ محمد جارة
سرين شيخ لوح كر امبوكي Keur Mbouki
سرين أبو امباكي الإمام
سرين الحاج بوسو ابن سرين بوسو حوا صو
سرين مصمب بوسو ابن سرين فاط انجاي بوسو وغير هؤلاء من إخوانه وأبنائه.

وإلى جانب مهمة التربية والتعليم، كان الشيخ يتولى إمامة مسجد كيدي منذ سنة ١٩٥٢م، وكان أيضا مهتما بالعلم والكسب شأن غير من الشيوخ المريدين، فكانت له مزارع تنتج معيشةَ أهله وأتباعه، وما كان يقدمه من هدايا لخلفاء الشيخ الخديم رضي الله عنهم.

شعره :
كان الشيخ مودُ خر، على تواضعه متضلعاً في مختلف العلوم الشرعية واللغوية، كما كان أديبا بارعا وشاعراً موهوباً رغم إقلاله من كتابة الشعر، وإن ما عثر عليه من عيون شعره، وإن كان قليلا، لينم عن موهبة ومقدرة أدبية حقيقية تتجلى من خلال أسلوبه السلس الخالي من التكلف والتصنع ومعانيه الرقيقة السامية. يقول رضي الله تعالى عنه في تهنئة الخليفة الشيخ محمد الفاضل بتمام بناء المسجد الجامع بطوبى
جزيت الخيرَ يا نجل الخديم      ودمت الدهر في حفظ العليم
عنيت الندب فاضل ذا المعالي      بتخصيص من الله الحكيم
لقد أتممت قصد الشيخ حقا      خديم المصطفى الماحي الكريم
وهي قصيدة رائعة تبلغ 17 بيتا.
وله أيضا قصيدة حسنة في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى ضمنها معاني سامية من توحيد الله تعالى والإنابة إليه والثناء عليه تعالى ومطلعها
        الحمد لله القدير وهو من       يحصل ما أراده بلفظ "كن"

صفاته :
كان الشيخ مود خر من العباد الزاهدين في الدنيا المتواضعين الخاشعين، الصادقين في إرادتهم. وكان رضي الله عنه فانيا في محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة شيخه الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه؛ فكم من مرة بكى وأبكى مستمعيه في ليالي المولد النبوي، حين كان يتدارس معهم بنفسه سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومناقبه بمسجد كيدي. كما أنه كان يُتحف مسامع زواره بمآثر شيخه وحكمه التي كانت محفورة في ذاكرته.

وكان رضي الله عنه ملازما لتلاوة القرآن صباح مساء، لا يُلفَى إلا وهو متربع في سجادته متوجها إلى القبلة، وأمامه المصحف الشريف أو في يده السبحة. وكان في سخائه لا يرد سائلا، بل هو ممن يصدق فيهم بحقٍّ قوله تعالى ﴿ وقليلا من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾[ الذاريات، ١٧-١٩]. وكان قليل الكلام بشوش الوجه رحب الصدر ودوداً شفيقاً بالأطفال والضعفاء، وفي المقابل كان يتمتع بمحبة الناس واحترامهم له، وكانوا يترددون إليه كل يوم بنيات شتى: فهذا للزيارة وذاك للاستجداء وأخر لالتماس دعائه المستجاب.

وبالجملة، كان الشيخ من النماذج النادرة التي بلورت مدرسةَ الشيخ امباكي بوسو بسعة المعرفة وأصالتها، وجسدت في الوقت نفسه تربيةَ الشيخ الخديم رضي الله عنه بكل ما فيها من كريم الأخلاق وجميل الصفات وعلو الهمة.

انتقاله إلى جوار ربه
انتقل الشيخ مودُ خر رضياً مرضيًّا إلى جوار ربه فجرَ الخميس السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ١٤١٤هـ الموافق ١٤ أكتوبر ١٩٩٣م. فجزاه الله عن الإسلام خيرا ونفعنا ببركاته.
                        بقلم/ سام بوسو عبد الرحمن

مقالات ذات صلة
من شعر الشيخ عبد الرحمن بوسو (سرين دام امبَر)  
شخصيات من المدرسة الخديمية

الأربعاء، 20 نوفمبر 2019

تأملات في الخطاب الأخير للخليفة الشيخ محمد المنتقى حفظه الله!


من يتأمل في خطابات الشيخ محمد المنتقى ـ حفظه الله ـ يدرك بوضوح حرصه البالغ على زيادة وعي المريدين وشحذ هممهم. فيلاحظ متابع خطاباته أنه تسود في كلماته نبرة حث الأتباع وتحفيزهم نحو التطلع إلى المعالي والابتعاد عن السفاسف، ويتكرر فيها تذكيرهم بضرورة الاهتمام بالعلم والاشتغال بالعبادة والتفاني في الخدمة، ويظهر من خلالها أن هذه الأمور ينبغي أن يكون في مقدمة أولويات المريد السالك.

فكأن الشيخ حفظه الله يعمل على تشكيل وعي جديد لدى المجتمع المريدي بمقتضيات الإرادة الصادقة من همةٍ عالية وأخلاقٍ فاضلةٍ وسلوكٍ مستقيم: نراه مراراً يرمز إلى أن الوقتَ قد حان للانتقال من حالة "السكر العارض" إلى حالة "الصحو الدائم" وللوعي بالمسئولية المنوطة على عاتق كل مريد، ويدعو إلى مضاعفة الجهود لاستيعاب مهمة الشيخ الخديم رضي الله عنه وتطبيق تعاليمه (xam Sëňbi ak dundu ko).
وفي الخطاب الأخير الذي ألقاه الشيخ حفظه الله تعالى بمناسبة لقائه بالمشتغلين بالعلم، صرح هذه المرة، بشكل لا يدع مجالا للاحتمال، بتلك المسئولية الكبرى التي كان يشير إليها. وفي الحقيقة، تتمثل هذه المسئولية في "الأمانة" التي عرضها الله سبحانه وتعالى ﴿على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان﴾ [الأحزاب، ٧٢]. وحملُ هذه الأمانة هو معيار التمييز بين أهل النفاق والشرك وبين أهل الإيمان والتوحيد، ﴿ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المومنين والمومنات﴾ [الأحزاب، ٧٣].

وهذه الأمانة على رأي جمهور المفسرين هي "الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد" أو "هي جميع وظائف الدين"، وبحملها تتحقق "الهداية" الضامنة لكرامة الإنسان ورقيه وسعادته، وبضياعها تفقد الحياة قيمتها وتنهار الإنسانية برمتها، ومن هنا قال الشيخ " إما الهداية وإما انهيار الإنسانية"، وهنا تكمن جسامة تلك المسئولية التي ترفع الإنسان وتميزه عن باقي المخلوقات الأخرى.

ونفهم من كلام الشيخ الخليفة أن مهمة خديم الرسول صلى الله عليه وسلم الأساسية هي قيادة الناس في تحمل المسئولية الكبرى بحمل "الأمانة" وبهذه المهمة تتحقق وراثته. ومن هنا تأتي ضرورة الوعي بهذه الأمانة التي هي في الحقيقة مسئولة البشرية جمعاء.

والشيخ حفظه الله تخيَّر بدقةٍ المفاهيمَ التي استخدمها في خطابه، وتحرى المستوى الذي يتواءم مع المخاطَين، لأنهم في واقع الأمر يُمثلون أهل العلم والفكر، فخاطبهم على قدر عقولهم.
وعلى هؤلاء النخبة من العلماء ( أو المشتغلين بالعلم ) بدورهم فهم الرسالة المضمنة في الخطاب واستيعابها وتبسيطها وتبليغها لعامة المريدين، حتى يتسنى لكل فرد منهم أن ينهض بدوره، ويكون على مستوى نصيبه من المسئولية الكبرى.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

الإقامة الجبرية للشيخ الخديم ( رضي الله تعالى عنه ) في السنغال


"الإقامة الجبرية للشيخ الخديم ( رضي الله تعالى عنه ) في السنغال"، هذا هو عنوان المحاضرة العامة التي نظّمتها دائرةُ روض الرياحين بمناسبة الاحتفال باليوم "الثامن عشر" من شهر صفر لسنة ١٤٤١هـ ( ٢٠١٩م) في دار الضيافة بمدينة طوبى المحروسة. 
أعدَّ هذه المحاضرةَ وألقاها الباحثُ الشيخ عيسى عافية غَيْ بحضور أعضاء الوفود الممثلة للطرق الصوفية ولأهم المنظمات الإسلامية في السنغال، وبحضور عدد كبير من العلماء والمشايخ الموريتانيين ومن المثقفين المريدين. ترأس الجلسةَ الشيخ إسحاق امباكي ابن الشيخ محمد البشير، وافتتحها الشيخ أحمد البدوي امباكي المنسق العام لروض الرياحين، وأدارها السيد شيخنا بوسو تيومبلين.
جاء اختيار موضوع "الإقامة الجبرية للشيخ الخديم في السنغال" في هذه السنة بعد تناول غيبته البحرية في غابون (١٨٩٥-١٩٠٢م) وغيبته البريّة في موريتانيا أرض الصالحين (١٩٠٣-١٩٠٧م) في السنتين الماضيتين.

وقد تناول المحاضرُ أهم الأسباب الموضوعية التي دفعت السلطات الإستعمارية إلى إعادة الشيخ رضي الله عنه إلى وطنه  ووضعه تحت الإقامة الجبرية  في تيين جلف Thieyène Diolof وتتمثل في شدة التفاف الناس حوله وكثرة ازدحامهم لديه وتخوفها المستمر من إصداره لقرار الجهاد المسلح ضد وجودها. وكانت هذه المنطقة مناسبةً في نظر هذه السلطات لصعوبة الوصول إليها. وقد اتخذت اجراءاتٍ مشددةً لعرقلة مريدي الشيخ الخديم رضي الله عنه من الإقبال نحوه، ولكن دون جدوى؛ فلم تحل هذه الإجراءات بينه وبين مواصلة مهمته التربوية.

وفيما يخص فترةَ الإقامة الجبرية في جربل (١٩١٢ إلى ١٩٢٧م)، وصف لنا المحاضر حياةَ الشيخ مع أتباعه في "بقعته المباركة"، وما تميزت به هذه المرحلة من الناحية العلمية والروحية والاجتماعية والاقتصادية؛ فتعرض لتآليف الشيخ فيها وأساليب تربيته ومراسلاته ومعاملاته مع الوفود والزوار ومع السلطات الاستعمارية، كما تناول أهم الأحداث التي جرت في هذه الفترة، مثل تشييد مسجده الجامع ورحلته إلى دكار لمقابلة الحاكم العام مرلين في مارس ١٠٢١م. 
وفي نهاية المحاضرة ذكر طرفا من كرامات الشيخ، ثم أورد خطبته الأخيرة البليغة المشهورة بـ"خطبة ومسش" (١٣٤٦هـ) التي وجهها إلى الناس أجمعين، قبيل انتقاله إلى جوار ربه ضحوة يوم الاثنين ١٨ محرم ١٣٤٦هـ (١٩٢٧م). رضي الله تعالى عن الشيخ الخديم وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
 
 

الأحد، 29 سبتمبر 2019

افتتاح "مسالك الجنان" لحظات عشناها بوجداننا !


في بعض اللحظات التاريخية النادرة يعيش الإنسان حالة شعورية تجعله عاجزا عن تصور الاحداث وعن استيعاب جميع أبعادها. وهنا يكتفي بمعايشة اللحظات ويتفاعل معها قلبا وقالبا.

فمراسيم الافتتاح لمسجد "مسالك الجنان" تمثل لحظات تاريخية نادرة، حيث تتوارد في الوجدان مشاعرُ الاعتزاز بانتصارٍ للاسلام وارتفاعٍ لشانه، وتتجاذب في الأذهان ذكرياتُ المحن التي عاشها الشيخُ الخديم رضي الله عنه في دكار في مثل هذه الأيام من شهر سبتمير ١٨٩٥.

وبينما ينغمس الإنسان في تلك المشاعر وينشغل بهذه الخواطر تجذبه إلى واقعه أجواءُ الفرحة والبهجة، وسط جموع تحدوها الحماسة الشديدة، وهي تخوض في حر الشمس نحو المسجد بمناراته الشامخة، بين مقبلين إلى الصلاة، وموزعين للماء والقهوة.

إنها حقا لحظات تاريخية عشناها بمشاعرنا وخواطرنا قبل أن نعود إليها بالتامل والتفكير في مغزاها ودلالاتها. فهنيئا للاسلام والمسلمين !


الأربعاء، 28 أغسطس 2019

مسجد مسالك الجنان: دلالات وأدوار

سيُفتَتَحُ خلال أسابيعَ قليلةٍ في العاصمة السنغالية دكار مسجدٌ كبيرٌ يحمل اسمَ "مسالك الجنان". وهو عنوانٌ لكتاب من أهم مؤلَّفات الشيخ أحمد بمب رضي الله عنه، وقد بنى مريدوا هذا الشيخ المؤسس للطريقة الصوفية المعروفة بـ"المريدية" هذ المسجد الجامع الذي يُعدّ من أكبر وأجمل المساجد في أفريقيا جنوب الصحراء، يسع لعدد من المصلين يقدر بعشرة آلاف، وذلك اعتماداً على جهودهم الذاتية.
وللمريدين، في واقع الأمر، تاريخٌ حافل مع بناء المساجد بدأ في عهد الشيخ المؤسس رضي الله عنه؛ فقد عُرف باهتمامه بالمسجد وبعمارته معنويا وماديا، فقد كان يبتهل إلى الله تعالى أن يُحول بيوته إلى مساجد حيث يقول رضي الله عنه
واجعل بيوتي كلَّها مساجدا *** يا نافياً من لا يكون ساجـدا

وكان رضي الله عنه يحرص على اتخاذ مسجدٍ في أي بقعة يحِلُّ فيها، وله قصة طريفة أيّام غربته في أدغال غابون النائية، فقد نصب عيدانا واتخذها مسجداً يُصلي للصلوات الخمسة، فاغتاظ بذلك حاكم المعسكر ونقضها وجرت بسبب ذلك مشاداتٌ كلامية بين هذا الحاكم وأحد المتعاطفين مع الشيخ، دامت ساعات!

 وفِيما بينَ سنة 1916-1918، بنى الشيخ مسجداً كبيراً في محلّ إقامته الجبرية في "البقعة المباركة" بمدينة جربلْ غربيَّ مدينة طوبى، وكان يتذكر تلك الواقعة في غابون ويشكر الله تعالى على كون هذا المسجد الرحيب عوضاً عن ذاك المصلى. وعن مسجد الشيخ هذا يقول العلامة الوليّ الصالح الشيخ سيدي باب (1860 م – 1924)، رحمه الله تعالى في قصيدة طويلة رائعة :

نِعْمَ مَأْوَى الذي يُريدُ قيامًــا ** أو عُكوفاً ونِعْمَ مأوى الْعُفـــاةِ
إِنْ يَكُــنْ للصَّلاةِ للهِ بَيْــتاً ** فَهْوَ بَيْتٌ أيضاً لِمَثْنَى الصِّـلاَتِ

وقبيْل انتقال الشيخ إلى الرفيق الأعلى أمر جميع مريديه بتشييد مسجدٍ جامع في مدينته طوبى المحروسة. وكان في ذلك الوقت أكبرَ مشروع للطريقة المريدية، وقد بذل أتباعُها النفس والنفيس لإتمام المشروع، فافتتح في يونيو ١٩٦٣ في عهد خليفته الثاني الشيخ محمد الفاضل رضي الله تعالى عنه، بعد أكثر من ثلاثين سنة من العمل.

وبعد الانتهاء من بناء المسجد الجامع في طوبى شرع المريدون في بناء مساجد أخرى في مناطق متفرقة من البلاد، كما ظلَّ الحلم يراودهم زمناً طويلا في تشييد مسجد جامع كبير في عاصمة البلاد دكار حيث يتواجدون بشكل مكثف في العقود الأخيرة.  
وفِي عهد الخليفة السادس الشيخ محمد الأمين بار امباكي (ت ٢٠١٠م) حصل المريدون من الدولة السنغالية بمساعدة الرئيس السابق عبد الله واد على قطعة أرض واسعة في قلب العاصمة مساحتها ٦ هكتار، بعد تنازلهم مرتين عن قطعة أرض كانوا يُقيمون عليها صلوات العيد لسنوات عدة.

وبعد سبع سنوات من الجهود الجبارة لإتمام البناء بتمويل ذاتي، قرّر الخليفة الحالي الشيخ محمد المنتقى حفظه الله تعالى تدشينَ مسجد " مسالك الجنان " في السابع والعشرين من شهر سبتمبر ٢٠١٩م.

 ويُعد هذا الافتتاح حدثاً تاريخيًّا كبيراً للإسلام بشكل عام وللمريدية بشكل خاص. فإنجاز هذا المسجد الكبير في قلب العاصمة السنغالية يحمل دلالات عديدة يختلف الناس في فهمها حسب اختلاف زوايا نظرتهم؛ ومن تلك الدلالات التي يمكن استخلاصها منه :
  •  أنه برهانٌ ساطع على ارتفاع شأن الدين الإسلامي على الرغم من رسوخ العلمانية وكثر أتباعها في هذه البلاد.
  •  أنه جزاءٌ من الله تعالى للشيخ الخديم رضي الله مقابل تضحياته الجسيمة في سبيل تعزيز الإسلام ورفع رايته.
  • أنه تتويج لجهود الشيخ وانتصار لمقاومته ضد القوى الاستعمارية ومساعيها الامبريالية.
  • أنه دليل على قدرة المريدين على رفع التحديات مهما عظمت إذا توحدوا وانتظموا خلف زعامتهم الروحية وهي الخلافة العامة للطريقة.
  • أنه بداية عهد جديد لمزيد من الانفتاح للمريدية على العالم الإسلامي باعتبارها دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية وثقافتها في غرب إفريقيا.

وللناس مذاهب شتى في قراءة دلالات هذا الصرح الديني، ولكن الأدوار المنتظرة والأهداف المتوخاة منه تستحق أن تُخصص لها عنايةٌ فائقةٌ؛ فتُدرس بدقة متناهية وتُوضح بجلاء حتى يتسنى للجميع أن يكرّسوا اهتمامهم وجهودهم في سبيل تحقيقها. 

ولاستجلاء بعضٍ من تلك الأدوار يمكن الانطلاق من فهم مهمة الشيخ الخديم التجديدية، ومقاربته التربوية، ووسائله الجهادية ( العلوم والتقى )، وأيضا من عنايته الفائقة بخدمة المسلمين أجمعين؛ فبالإضافة إلى توفير مكان واسع لأداء الصلوات الخمسة وصلوات الجُمعة والعيدين لعشرات الآلاف من المسلمين في قلب العاصمة داكار، يمكن لمسجد" مسالك الجنان" أن ينهض بأدوار مهمة للغاية تتمثل على سبيل المثال في: 
  • غرس روح الوحدة بين المسلين في البلاد باعتباره ملتقى للجميع على اختلاف الانتماءات والمشارب الفكرية.
  • توعية المسلمين عامة والمريدين خاصة وإرشادهم في أمور دينهم وشؤون دنياهم.
  • نشر التربية والقيم الإسلامية السامية في المجتمع السنغالي.
  • تمثيل وسطية الإسلام وسماحته من خلال نشر تعاليم شيخنا أحمد الخديم.
  • تجسيد روح التضامن الإسلامي من خلال رعاية الضعفاء والمحتاجين.
  • مقاومة تغريبِ المجتمع السنغالي للحيلولة ضد طمسِ هويته الإسلامية.
  • رفع معنويات المسلمين واعتزازهم بالدين الإسلامي.
  • تشجيع السياحة الدينية والتلاقي والتعارف بين الشعوب المختلفة.
  • إبراز الوجه الحقيقي للمريدية ونشر تعاليم مؤسسها على مستوى العالم. 

    فللمريد، على العموم، حقٌ في أن يرى في افتتاح هذا المسجد مؤشراً على انتصار جهاد شيخه على المشروع الاستعماري البغيض ويتفاخر بذلك، ولكن من المهم، في نظري، أن يتم التركيز أكثر على دراسة وتحقيق مثل هذه الأدوار المهمة التي تتجاوب مع أهداف الشيخ الخديم التربوية ووتوجهاته التجديدية وتتناسب مع التحديات الراهنة للمجتمع السنغالي المسلم
نسأل الله تعالى أن يوفق جميع المعنيين بعمارة المسجد والقائمين على تسييره، وأن يسدد خطاهم.

الثلاثاء، 30 يوليو 2019

ديوان العلوم الدينية للشيخ أحمد الخديم (ض)… إصدار القرن!


من أبرز ما يشد الانتباه في حياة مولانا الشيخ أحمد الخديم رضي الله عنه غزارة إنتاجه الأدبي والعلمي، مصداقا لقوله رضي الله عنه " كرامتي خط يدي". فقد عانى الشيخ من محن ومن مضايقات واضطهادات كثيرة من قبل المستعمر الفرنسي الذي قام بنفيه مرتين خارج بلده وفرض عليه إقامة جبرية طيلة مدة تربو على ثلاثين سنة، وعلى الرغم من ذلك خلَّف تراثاً معرفيّاً عظيماً قلَّ نظيرُه في منطقته وعصره، من حيث الكثرة والقيمة العلمية. وقد شملت هذه المؤلفاتُ مجالات مختلفة من توحيد وفقه وتصوف وأدب ولغة، كما اتخذت أشكالا متنوعة، من نظم ونثر، وأساليب مختلفة من وصايا ونصائح وفتاوى، إلى جانب دواوين الأمداح والصلوات والابتهالات.

كان بعض هذه المؤلفات الخديمية منتشراً في أيدي أتباعه وبعضُه الآخر مخزونا في دوره، والنسخ المتداولة منها مكتوبة بخط مغربي إفريقي غير منتشر في العالم الإسلامي. ولهذه الأسباب كانت المكتبات الإسلامية خالية من كتب الشيخ إلا نادراً مع ما تتضمنه من قيمة أدبية وعلمية رفيعة.

وفي عهد الشيخ رضي الله وُجدت محاولات لطباعة مؤلفاته في بعد البلدان العربية مثل مصر ولبنان، ولكن هذه الطبعات لم يُكتب لها انتشار واسع، وقد نفدت كلها منذ عقود من الزمن. وللشيخ عبد الأحد امباكي الخليفة الثالث للشيخ الخديم رضي الله عنه جهودٌ جبارةٌ في جمعها وحفظها وطبعها؛ ولهذا الغرض أنشأ مكتبة الشيخ الخديم في طوبى في السبعينات من القرن الماضي، واشترى آلة للطباعة، وهكذا تم طبع نسخ عديدة من دواوين الشيخ بالخط المغربي الإفريقي وأودعت في المكتبة.

وقد شهدت الساحة العلمية المريدية في العقدين الأخيرين عدةَ إنجازات في مجال تحقيق مؤلفات الشيخ وشرحها ودراستها من قبل بعض الطلبة وبعض المؤسسات مثل دائرة روض الرياحين والرابطة الخديمية للباحثين والدارسين.

ويأتي الإصدار الأخير للرابطة الخديمية "ديوان العلوم الدينية" لسد فراغ كبير في المكتبة العربية الإسلامية التي كانت تفتقر حتى الآن إلى كتاب يضم بين دفتيه مجموع مؤلفات الشيخ الخديم التعليمية المتوفرة في التوحيد والفقه والتصوف واللغة.

إن هذا الإصدار الذي يحتوي على ٢٦ متناً مع مقدمة قيِّمة عن حياة الشيخ وأعماله، وما فيه من شروح وتوضيحات، يمثل في الحقيقة تحفةً ثمينةً لطلبة العلم وللباحثين ولكل المهتمين بالتراث الإسلامي في إفريقيا الغربية عموما.

والكتاب ( مجلد واحد في ٦٢٨ صفحة) إلى جانب احتوائه لجميع المتون التعليمية المعروفة للشيخ يمتاز بجودة طباعته، من حيث الإخراج الفني ونوع الورق والتجليد، ويعتبر في نظري من أجلّ الخدمات التي يمكن تقديمها للتراث المريدي وللدارسين في الوقت الراهن، ولذلك كنت أصفه بـ" إصدار القرن"!

وإذ نشكر الرابطة على جهودها المباركة، نسأل الله تعالى أن يكتب لهذا العمل القبول والانتشار والنفع ببركة المؤلف رضي الله عنه ومخدومه صلى الله عليه وسلم.



الأحد، 2 يونيو 2019

دعوة زعماء التصوف إلى وحدة الصف: نموذج السيد الحاج مالك والشيخ أحمد الخديم (ض) [1]


يواجه المسلمون في الوقت الراهن تحديات متنوعة كتفشي حالة الجهل وانتشار الفقر وبروز أعمال العنف، ويتعرضون للظلم والعدوان من قبل القوى المعادية للإسلام ، الأمر الذي يجعل بذلَ مزيد من الجهد لتحقيق الوحدة من أوجب الواجبات وأشد الضروريات إلحاحا.

وقد كانت لزعماء الطرق الصوفية مواقف مثالية في دعوة الناس إلى وحدة الصف ومحاربة الفرقة بين المسلمين. وسنورد في هذا المقام نموذجين من جهود زعماء الطرق في الدعوة إلى توحيد الصف والعمل من أجله عبر الشيخين: الشيخ أحمد بمبا والسيد الحاج مالك سي رضي الله عنهما.

كان المجتمع المسلم في الفترة التاريخية التي عاش فيها الشيخان يعاني من أدواء صعبة المعالجة، من أبرزها داء التعصب بأنواعه المختلفة، ولذلك عُني كل منهما بعلاج هذا الداء. ويتعين على الشباب أن يستلهم هذا التراث ويلعب دوره في السعي لتفعيل وترسيخ وحدة الأمة في هذه الظروف.

        أ) الشيخ الخديم  (ض) والدعوة إلى الوحدة

قام الشيخ الخديم رضي الله عنه بدور مهم في علاج رواسب التعصب المتولد من الانتماء المذهبي والطائفي والتي دبت وسرت في جسم الأمة حتى أضعفتها وفرقتها إلى فرق متناحرة ينظر بعضها إلى بعض بعين الاحتقار، ويتجلى ذلك من خلال مواقفه التفرق المذهبي والطائفي والطبقي.

موقفه من التفرق المذهبي:[2]
عالج الشيخ التفرق المذهبي الذي يسببه الخلاف بين الفرق الكلامية، فنهى عن معادة أي مسلم ينطق بكلمتي الشهادة " لا إله إلا الله " بقوله المشهور
        ولا تعادوا من رأيتم فـــــــــاه           يخــــــرج "لا إلـــه إلا الله"



وأما المذاهب الفقهية فقد اتخذ  الشيخ تجاهها موقفا متميزا : فقد اعترف بها واعتبر الأئمة الأربعة أئمته
        أئمتي في الفقه مالك العلى              والشافعي والحنفي والحنبلي



ومن هنا لا تُعتبر مذاهبهم معاول الهدم والتفرقة، كما نفهم من البيت تسويغ العمل بها جميعا، ولكنه نظرا لكون المالكية المذهب السائد في منطقته وجه اتباعه إلى الالتزام بها حفاظا على وحدة الأمة في هذه المنطقة .

موقفه من التفرق الطائفي :
فقد حارب الشيخ جعل الطرق الصوفية مطايا لتفريق المسلمين، فأكد بصراحة لم يسبقه عليها أحد بأن الأوراد  طرق للتقرب إلى الله ينبغي لصاحب ورد ما أن يعد أصحاب الأوراد الأخرى إخوة لله في الطريق، يقول في المسالك :
        فكل ورد يورد المريــــدا                 لحضــــرة الله ولم يحيــــــدا
        سواء انتمى إلى الــجيلاني              أو انتمى لأحمد التيجـــــاني
        أو لسواهما من الأقـــطاب               إذ كلهم قطعا على الصواب
        إذ كلهم يدعو المريدين إلى              طاعة رب العرش حيثما جلا
        بالاستقامة فلا تسخر أحد                منهم ولا تنكر عــليـــــه أبد

موقفه من مشكلة الطبقية الاجتماعية:
 ركز الشيخ في علاجه الطبقية الراسخة في المجتمع على مبدأ المساواة الذي نادى به الإسلام ، فلا تفاضل ولا تفاوت إلا بالتقوى التي هي ثمرة العلم والعمل والإخلاص يقول في " نهج قضاء الحاج":
        واعلم بأنما تفوت الورى         بالعلم والدين يكون فاصبرا
        وبهما يفضل من قد فضلا        ففيهما اجتهد مع التـــــأدب[3]


فهكذا نجد عند الشيخ اهتماما كبيرا بوحدة المسلمين في دعوته الإصلاحية، فعني عناية خاصة بتجفيف الروافد التي تغذي روح العداوة والتنافر وبتفتيح الينابيع  التي تروي بذور المحبة؛ ومن ابتهالاته رضي الله عنه التي تَنمُّ عن شدة حرصه على توحد المسلمين وتوطد أواصر المحبة بينهم قوله في قصيدة مطلب الشفاء
        واجعــــل قلوبنا علي التــــــوادد             بلا تنازع ولا تــحـاســـــــــد
        ولا تخاصـــــــــم ولا تــــــدابــــر            ولا تباغض ولا تــــنــــافــــر
         حتي نصير مسلمين خاشعـــين            ومؤمنين مخلصين صالحين[4]



  ب) السيد الحاج مالك سي والدعوة إلى الوحدة
يعتبر السيد الحاج مالك سِه رحمه الله تعالى (1855- 1922م)، أحد أقطاب الطريقة التيجانية في السنغال، من أبرز زعماء التصوف الذين لعبوا دوراً جليلا في نشر الإسلام في السنغال. وقد كان منتبها لخطورة التعصب الطائفي الذي كان يهدد وحدة الأمة ويدفع كلَّ فريق إلى احتقار من لم يسلك في طريقته. فحاول سد باب التعصب بتأكيد صلاحية جميع الطرق الصوفية الحقيقية وأهليتها لتوصيل سالكيها إلى حضرة المولى عز وجل فكتب يقول:

 فالـطـرق كـلّها إلى الرحمان
مـوصـلة مُـسـلكة يا جـاني[5]

وقال في كتابه "كفاية الرّاغبين": «على الشّيخ ـ كما في روح الأرواح ـ  أن ينبّه المريد أنّ تعظيمَ كلّ المشايخ المحقّـقين واجبٌ واحترام المسلمين فرض، وأنّ كلّ من حقر طريقةَ غيره فقد حقر الإسلام، وربّما جرّه ذلك إلى الكفر وهو لا يشعر، فإنّه يستحلُّ الغيبة والحقد والتفريق بين المؤمنين، فنعوذ بالله من الغرور». وحرصا منه على وحدة صف المسلمين يصل إلى القول بـ"أن الواجب على كل مسلم ترك قول كل شيخ يؤدي إلى الحقد والحسد والكبر أو إلى التفريق بين المسلمين"[6]

وفي هذا الكتاب أيضا يقول نقلا عن الشعراني رضي الله عنهما في كتابه لواقح الأنوار" وإياك أن تحذر من اتباع أحد من العلماء بقول أحد من حسادهم من غير اجتماع به فربما يكون بريئا مما نُسب إليه، فيكون عليك إثم قاطع الطريق على المريدين لاتباع الشريعة، فإنك حينئذ تحذر من اتباع السنة المحمدية؛ وهذا واقع كثيرا في الأقران في هذا الزمان، فترى كل واحد يحذر الناس عن الآخر وكل منهم يزعم أنه من أهل السنة والجماعة فيختل الأمر إلى عدم الاقتداء بواحد منهما"[7]

العلاقة الأخوية بين الشيخين 
فمن ناحية أخرى جسد الزعيمان دعوتهما إلى الوحدة عبر علاقاتهما الأخوية المتينة المليئة بالإشارات الموحية.
فقد كان السيد الحاج مالك "حريصا على حفظ القرابة الرَّحِمِيّة التي كانت تربطه بالعبد الخديم رضي الله عنه فضلا عن المحبّة في الله التي كانت السّبب الرّئيسي في مراسلاتهما وتهاديهما مرارا وتكرارا. فقد أهدى له، على سبيل المثال لا الحصر، مُصحفا مُرفَـقا ببيتين، حملهما إلى العبد الخديم مريده الوفيّ الحَاجِ رَوْحَانْ أَنْغُومْ (1859-1955م). والبيتان هما:
 هــديـة مُــوجـبــها اجتلاب 
مـــحـبّـة يــا أيـّهـا الـحُــبـــاب
أدام ربّنا لنا حبل الــوصال
وكفّنا شرّ الذي عادى وصال
فأجابه العبد الخديم ببيتين، هما:
جزاكم خير الجـــزا الوهّــاب
وفـي صـفا الـوداد لا تـرتـاب
فكيف لا والمصطفى المـجاب
إمـامنا والـقِـتْـلَ لا نــهــاب8]


دور الشباب في تفعيل هذه الدعوة
فهذه الدعوة إلى وحدة الصف من قبل زعماء التصوف، والتي لم نأت إلا بنموذجين منها، ينبغي تفعيلها وترسيخها وتوصيلها إلى الأجيال الراهنة والمقبلة، وللشباب في ذلك دور  يُنتظر. ويتمثل هذا الدور في:



   1. محاولة التعرف على وجهات نظر الاخر ومرجعياته الخاصة عن طريق إقامة مناسبات علمية مشركة تكون ميدانا للتبادل والتلاقح الفكري وتنظيم أنشطة ثقافية تسهم في تقريب الرؤى.
   2.  بناء علاقة روحية مبنية على الأصول والمرتكزات المشتركة المؤسسة لتعاليم زعماء الطرق الصوفية؛ فقد رأينا أنهم بنوا تعاليمهم على الكتاب والسنة وان اختلفت مناهجهم في التربية، فلا فرق بينهم في أصول الإيمان والإسلام والإحسان. 
   3. إبراز حقيقة تعاليم الزعماء وإيصالها إلى الأتباع العوام، ليدكوا مدى تلاقي  مشارب شيوخهم ووحدة أهدافهم
                عباراتهم شتى وحسنك واحد    فكل إلى ذلك الجمال يشير
       فهدف التربية الروحية واحد مهما كان المنهج المتبع فلا يخرج عن تزكية النفس وتطهير القلب من الرذائل وترقية همة المريد لكسب المعالي.
نسأل الله أن يسهل لنا الطريق نحو تحقيق الوحدة بين المسلمين استجابة لدعوة زعمائنا رضي الله عنهم وأرضاهم ، آمين


يمكنكم تحميل نص المحاضرة كاملا من هنا

[1]       جزء من محاضرة ألقيناها بمناسبة ندوة علمية نظمت في مدينة تياس سنة 2010 حول موضوع  "دور التصوف والطرق الصوفية في توجيه وتربية الشباب المسلم" وكان موضوع المحاضرة " دعوة زعماء الطرق الصوفية إلى الوحدة ودور الشباب في تفعيلها"
[2]عالمية دعوة الشيخ الخديم، محاضرة أعدتها دائرة روض الرياحين بمناسبة "مغال طوبى" لسنة ٢٠٠١
[3]نهج قضاء الحاج
[4]قصيدة مطلب الشفاء
[5]فاكهة الطلاب أو جامع المرام، ص. 30. مخطوط.
[6]كفاية الراغبين ص ١٦
[7]الكفاية ص ٤
[8]الأستاذ محمد غلاي انجاي، أحمد بمب الشخصية التاريخية، مجلة الوعي المريدي، العدد الأول، مايو ٢٠٠٨

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...