الخميس، 21 ديسمبر 2023

وأقيموا الشهادة لله!

من النادر أن نكتب شهادةً لحي يرزق، ولكنني هذه المرة أود أن أخالف هذا العرف السائد وأسجل شهادة للتاريخ، بعد إذاعة الخبر السارّ المتعلق بإنشاء إدارة وطنية للمدارس القرآنية في وزارة التربية الوطنية، وإسنادها إلى زميلنا المفتش بابكر صامب.

إن قرارَ رئيس الجمهورية تحويلَ مفتشية المدارس القرآنية إلى إدارة وطنية لم يأت، في الحقيقة، من فراغ؛ فوراء هذا القرار جهودٌ جبارة بذلها مخلصون عديدون متفانون في خدمة التعليم القرآني في البلاد، منذ أكثر من عقدين من الزمن.
فقد مرّت بعدة محطات تلك المحاولاتُ والمساعي التي كانت ترمي إلى تعزيز مكانة التعليم القرآني على المستوى المؤسساتي وإدماجه في النظام التربوي الرسمي، وظهرت مبادرات عدة في الساحة من جهات رسمية، ومن منظمات غير حكومية، ومن مسؤولي مدارس قرآنية ومحبين للقرآن الكريم.
ومن أبرز هذه البرامج والمبادرات في السنوات الأخيرة إقامةُ مشروع لدعم عملية تحديث المدارس القرآنية PAMOD وإنشاءُ مفتشيةٍ للمدارس القرآنية داخل وزارة التربية.

ولكن الفضل في اتخاذ هذا القرار التاريخي بإنشاء إدارة وطنية يرجع بشكل كبير إلى المفتش السيد بابكر صمب وفريق عمله.
فقد نجح السيد بابكر وأعوانه في بلورة رؤية واضحة لسياسة تطوير المدارس القرآنية ورسم استراتجيات فعالة لتنفيذ هذه السياسة، وتمكن بفضل ما يتمتع به من حكمة ورزانة ودماثة وانفتاح من تعبئة الكفاءات المختلفة اللازمة لتسيير مشاريع المفتشية بشكل جيد. وقد أسعفته - بحمد الله تعالى - شخصيته المتوازنة والمتواضعة ومستواه الأكاديمي والمهني في كسر الحواجز اللغوية والثقافية التي تعرقل العملَ الجماعي في كثير من مشاريعنا المهمة.

حقيقةً، كانت مفتشية المدارس على مستوى التحديات في الوقت الذي كان التعليم القرآني ومدارسه يعاني مشكلات في الداخل، ويواجه هجمات من الخارج، وأصبحت كل محاولة للإصلاح أو للدفاع عرضة للاتهام، أظهرت بحنكة مديرها قدرةً فائقة في المشي على طريق وعر مع تجنب الكثير من المزالق الطائفية والسياسية والأيديولوجية.
وكان النجاح الباهر في تنظيم أول مسابقة دولية لحفظ القرآن الكريم في السنغال في الأسبوع الماضي تتويجاً لجهود المفتشية. ومن هنا نرى أن تعيين الأخ المفتش بابكر مديراً لإدارة المدارس القرآنية لم يكن اعتباطا ولا تحابيا وإنما استحق هذا المنصب بكل جدارة.

وهذا التعيين، من ناحية أخرى، وسام على صدر جميع المستعربين؛ فقد برهن الأخ بابكر وغيره من زملائنا أصحاب المسؤوليات العليا أن على الدولة أن تستفيد أكثر من كفاءات المستعربين في تسيير شؤون البلاد بفضل ما يتمتعون به من مواصفات يحتاج إليها المجتمع.
ونحن إذ ندوِّن هذه الشهادة لا يعزب عن بالنا أن المسؤولية جسيمة، وأن المهمة ثقيلة، إلا أننا متفائلون كل التفاؤل وواثقون كل الثقة في عون الله تعالى.

نسال الله تعالى أن يوفق أخانا بابكر ويوفق كلَّ من يعمل لصالح نظامنا التربوي عموما والتعليم العربي الإسلامي خصوصاً.

الأربعاء، 20 ديسمبر 2023

وداعا أيها الصديق الوفي!

كنت أبحثُ عن كلمات تعبر عن شعوري عند انتشار النبأ المفزع والمفجع، وكأنها تفر مني ولا تريد أن تسعفني، بقيت لحظات لا أستطيع أن أصدق أن صديقي وزميلي قد فارق الحياة، وهو في أوج العطاء التربوي، وافته المنية في ميدان الجهاد، والسلاح بيده، كان يُلقي درساً لم تكن حصته قد حانت، كان يقدم حصة الجمعة في مساء الثلاثاء، كأنه في سباقٍ مع الزمن ليؤدي ما عليه.
لم يكن المرحوم بإذن الله تعالى الدكتور مصطفى جوم مجرد زميل لي، بل كان صديقا وحبيبا، كنتُ أتلمس في حديثه معي أمارات المحبة والاحترام.
رافقني لأكثر من عشر سنوات في المفتشية الأكاديمية بتياس، وكان خير رفيق وخير ناصح وخير مستشار. وكان يخفف عني الكثير من المهام.
لا أعرف أكثر منه دماثة وأحسن منه خلقا، ومن أبرز أخلاقه الإيثار والتواضع والحلم.
كان نموذجا في الإخلاص في العمل والتفاني في الخدمة، كان يحمل معه همَّ التعليم العربي الإسلامي أينما حل. كان مثالا في علو الهمة والجدية والمثابرة. كان من فرسان الجهاد التربوي أينما أعلن، ولم يكن التحزُّب يجد إليه سبيلا، وكان قياديا شجاعا جريئا في مواقفه ووفيا لمبادئه.
لا نملك إلا أن نقول : "إنا لله وإنا إليه راجعون" سائلين الله سبحانه وتعالى أن يرحمه رحمةً واسعة ويسكنه في الفردوس الأعلى ويلهم أهله من أقاربه وزملائه الصبر والسلوان.

الخميس، 7 ديسمبر 2023

مقصد الترك أومفهوم البدعة في نظر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه


عُرف العلامةُ الأصولي المحقق الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله تعالى- بمشروعه الفكري التجديدي، وهو مشروع يقوم على أساس البحث عن الحلول الناجعة لما يعانيه العالم الإسلامي من الأزمات والمشكلات التي تعرقل مسيرتها وتثبط همَّتها في النهوض بقيادة البشرية على ضوء القيم الإسلامية السمحة.

ويُعنى الشيخُ في كتاباته بإبراز مكامِن الزلَل الفكري المُؤدي في كثير من الأحيان إلى خلافاتٍ وتجاذباتٍ، بل إلى تبديع وتفسيق أو تكفير طرف لطرف آخر. والشيخ لمعرفته بخطورة الفهم القاصر وآثاره السلبية في العيش المشترك، والانسجام المجتمعي، والتناسق الفكري، بين المسلمين، نراه يقف مع بعض القضايا الشائكة وقفة تحليلية؛ يحرر محل الخلاف ومناط الحكم فيها، ويعرض الآراء الفقهية بكل إنصاف، ويناقش الأدلة مناقشة دقيقة، يقيد شوراد المسألة لتشكيل صورة واضحة عن القضية بحيث تصبح الأمور في أحجامها الحقيقية، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.

ومن هذه المسائل التي عُني الشيخ بها عناية فائقة، وغَفَل عنها الكثير، “مقصدُ الترك” الذي يسميها بـ"بدعة الترك”، وقد عالجها في كتابه الماتع القيم "مشاهد من المقاصد"[1] معالجة عميقة تكشف عن هذا الهم الإصلاحي الذي يحمله من أجل تفكيك وصياغة المفاهيم الرائجة الملتبسة لدى كثير من الناس والتي تتسبب في تعميق الخلافات بين المسلمين.

فقد بدأ الشيخ بتعريف هذا المفهوم، ويعني "فعل أمر في محلٍ تُرك من قبل الشارع" قبل أن يورد مواقف العلماء تجاهه؛ فهذه المسألة - حسب رأيه الثاقب- مسألة اجتهادية دقيقة، انقسم حولها العلماءُ على مذهبين: مذهب لا يعتبرها دليلا إلا على مجرد رفع الحرج، لا سيما فيما له أصل جملي، فيكون المتروك معروضا على عموم الأدلة الأخرى، ومذهب يرتب عليها حكم الكراهة أو التحريم.

فأصحاب المذهب الأول هم الذين يُقسِّمون البدعةَ إلى خمسة أقسام وفق الأحكام الشرعية الخمسة، وهم الشافعية ومتأخرو المالكية والإمام النووي والإمام ابن عبد السلام والقرافي وغيرهم، ويرون أن الترك ليس دليلا لأن الشارع يقول " وما نهيتكم عنه فانتهوا" ولم يقل: وما تركت. ورأي هؤلاء مبني على أن البدعة حقيقةٌ فيما لم يُفعل في الصدر الأول حسنا كان أو قبيحا، وأن جميع ما ورد في البدعة من نحو قوله عليه السلام "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وأن العبادات والعادات متساوية في لحوق البدع.

وأصحاب المذهب الثاني يرون أن ترك الشارع لفعل أو لكيفية دليل على قصده عدمَ الإتيان بالفعل أو بالكيفية، وأن إقدام المكلَّف على فعل في محل الترك ابتداعٌ في الشرع، وأبرزهم ابن تيمية والشاطبي وابن القيم. ويذهب هذا الفريق إلى أن الترك من السنة.

لم يأل العلامة الشيخ عبد الله جهداً في إيراد الأدلة ومناقشتها، وفي ذكر عدد من المسائل المختلف فيها بناء على هذا الأصل "مقصد الترك"، ومنها على سبيل المثال: الدعاء بعد الصلاة جماعة، وقراءة القرآن جماعة في المسجد بصوت واحد، والتوسل بالأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهنا نلاحظ أن الشيخ يميل إلى تأييد القول بأن “الترك لا يدلُّ على الحظر ولا على الكراهة، بل إنه يدل على أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه هو الأولى، لكن لا إنكار في فعل ما تركه”، وقد ساق عدةَ أوجهٍ يذكرها أصحابُ هذا الرأي ومنها:

← قد يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يدل إلا على رفع الحرج، مثل تركه أكل الضب وأكل طعام فيه ثوم؛

← قد يترك صلى الله عليه وسلم بعض المستحبات خوفا من أن تفرض على أمته؛ كما في قول عائشة رضي الله عنها: " وما سبَّح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الصحى قط وإني لأسبحها”.

← قد يترك عليه السلام أمراً لكونه خلاف الأولى، ويفعل المتروك في أوقات نادرة لبيان الجواز، مثل تنشيف أعضاء الوضوء بالمنشفة.

← نجد الصحابة يعملون بعض القربات في مقام الترك دون سؤال، مثل مواظبة أحد الأنصار على قراءة سورة الإخلاص في صلاته. وفي الحج ثبت أن بعض الصحابة كان يلبي تلبية فيها زيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل، وزيادة ابن عمر: والخير بيديك والرغباء إليك.

ويزيد الشيخ- جزاه الله خيرا- أن القول بكون الترك من السنة يخالف تأكيدَ العلماء حصرَ الأصوليين السنةَ التشريعية على القول والفعل والتقرير، كما ورد في بداية المجتهد “الشريعة تتلقى من ثلاث طرق هي اللفظ والفعل والإقرار”.

وفي معرض ذكر تلك الأوجه يُشير الشيخ إلى إشكالٍ يتعلق بفعل السلف حين يُنقل عن بعضهم دون بعض، فهل يكفي ذلك لنفي صفة البدعة عنه عند الفريق الأول أم لا؟

ومن أمثلة ذلك: تتبُّع عبد الله بن عمر لآثار النبي عليه السلام للتبرُّك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، واستسقاء شخص (إما صحابي أو تابعي) عند القبري النبوي بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ"استسق لنا".

فمن بين الفريق الأول من يعتبر ذلك بدعة فاحشة مع ورود أثر فيه، وهنا يكون الإشكال بين المدرستين في ضبط ترك السلف وفي فهم ما هو عبادة لا تصرف إلا لله وفي استعمال المجاز في الإسناد".

هكذا استعرضنا بكل إيجاز كيف عالج الشيخ هذا الموضوع بموضوعية وإنصاف، ويمكن أن نلمس من خلال معالجته للمسألة واهتمامه بها هذا الاهتمامَ البالغ، في سياق حديثه عن المقاصد الشرعية، نزعتَه إلى تجديد المفاهيم، ونفض ما علق عليها من غبار التعصب الفكري المؤدي إلى تبديع المخالف أو تكفيره دون أساس علمي قوي. فهذه المعالجة الأصولية الدقيقة ليست ترفا فكريا إنما تنصب في صلب مشروع الشيخ الرامي إلى دراسة المفاهيم التي يُساء فهمُها وتوظيفُها ، فتصبح ذريعةً إلى تشتيت وحدة الأمة؛ ومن هذه المفاهيم الرائجة مفهوم البدعة، وقلَّما اعتني بها العلماء في الدراسات الأصولية والفقهية مع كونه من أبرز ما يُغذي الخلافات والسجالات بين الصوفية والسلفية في الوقت الراهن.
                                                                               د. سام بوسو عبد الرحمن

الأحد، 12 نوفمبر 2023

11 نوفمبر 1902م : دروس من عودة الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه من غيبته البحرية

بعد أكثر من سبع سنوات في الغربة، عاد الشيخ أحمد بمب رضي الله تعالى عنه إلى السنغال في يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1902م، ونزل في ميناء دكار، بعد رحلة بحرية دامت 12 يوما، حيث غادرت السفينة التي أقلَّه مدينةَ ليبرفيل يوم الخميس 30 أكتوبر 1902م، ومرت بداومي، وغران بصام، وكوناكري قبل أن تصل إلى دكار.
وكانت هذه العودةُ حديثا تاريخيا تحمل دلالاتٍ كثيرةً؛ ففي منتصف القرن التاسعَ عشر الميلادي ظهر الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه في الساحة الدينية حاملا رسالة ربانية وقائما بمهمة تجديدية، وكان غرب إفريقيا في هذا الظرف يتعرض لحملة استعمارية شرسة كانت ترمي إلى استغلال البلاد وطمسِ هوية السكان واستعبادِهم.
وكان الجهاد الذي رفعه الشيخ يمثل مقاومةً تهدد مشروعَ المحتل الفرنسي بالإفشال، لأنه رضي الله عنه كان يغرس في نفوس أتباعه التوحيدَ لله تعالى، والتحررَّ من ربقة أي سلطة غير سلطته سبحانه وتعالى، وينمي فيهم روحَ العمل والاعتمادِ على الذات والثقةِ بالنفس.
وعلى هذا الأساس قررت سلطات الاحتلال إخراجَه من وطنه ومن بين أهله وأتباعه بتلفيق تُهمٍ باطلةٍ من خلال محاكمةٍ هزَلية في الخامس من سبتمبر 1895م في مدينة اندر عاصمة المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا.
وهكذا، غُرِّب الشيخ رضي الله تعالى إلى جزر الغابون النائية، فقضى في هذه الغربة سبع سنوات وبضعةَ أشهر متحملا ما لا يمكن تصوره من أنواع التعذيب والاضطهاد، ولكن هذه المعاناة لم تضعضع من عزمه وهمته في عبادة الله تعالى وخدمة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كانت الغربةُ نعمةً في طيِّ نقمةٍ ومنحةٍ في صورة محنةٍ.
وكانت عودتُه بسلامٍ من هذه الغيبة انتصاراً للإسلام وهزيمةً لمشروع المحتل في وأد دعوته وتشتيت مريديه، ورمزا للشجاعة والمثابرة؛ وهي تنطوي في حقيقة الأمر على دروس بليغة، منها:
أولا: أن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف، وقد وعد بنصر المومنين في قوله تعالى "وكان حقا علينا نصر المومنين" ولن يخذلهم أمام الكافرين كما في قوله تعالى "ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا". وهذا الوعد الصادق يفرض على المسلم أن يراجع إيمانه ويثق بربه ليحظى بنصرته وحمايته.
ثانيا: أن المعركة بين الحق والباطل مستمرة في الحياة، ولكن الباطل مهما قويت سطوته، لا يمكن أن يصمد أمام الحق، كما قال الشيخ الخديم :
الحق ثابتُ وأما الباطل           وإن علا فساهق وسافل
وإذا أدرك صاحب الحق المتمسكُ بمبادئه هذه الحقيقة يهون عليه ما سيعانيه من أهل الباطل، فيتحلى بالصبر والمثابرة، ويضع أهدافه نصب عينيه.

ثالثا: أن جهاد الشيخ رضي الله تعالى عنه بالوسائل السلمية (العلوم والتقى) كان أخطر على أعداء الإسلام المحتلّين من مواجهتهم بالأسلحة التقليدية؛ فقد قاومهم لوحده، وكان الانتصار لدين الإسلام، وقد تنبَّه لهذا البُعدِ العلامةُ الشيخ سعد أبيه، فهنَّأ الإسلام بعودته قائلا:
هنيئاً لذا الدينِ الغريب الذي غدا        يتيهُ سرورا منكم وافتخارا
رابعا: أن إعلان الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه عن عفوه الشامل عمن ظلموه واضطهدوه بعد عودته دليلٌ واضح على كونه رمزاً للسلام والسماحة؛ فقد قدَّم درسا بليغا للبشرية بنجاعة المنهج السلمي الذي أثبت فعاليتَه أمام غطرسة السلطات الاحتلالية، وحافظ على دعوة الشيخ وتربته ومشروعه بشكل عام.

فهذا طرفٌ من الدروس التي يمكن استخلاصُها من هذا الحدث المتميز في التاريخ الإسلامي، وهو حدثٌ يجسِّد روحَ الإيمان والثقةِ به والتفاني في خدمة الإسلام، ويرمز إلى نجاعة الجهاد السلمي الذي خاضه الشيخ رضي الله تعالى عنه، وإلى فشل المشروع الاستعماري في وأد دعوته، كما تحمِلُ دلالاتٍ أخرى عديدةً تستحق الدراسةَ والتأمَّل.
د. سام بوسو عبد الرحمن

مقالات ذات صلة

دراسة حول الأبعاد الدينية والاجتماعية للمغال




الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

لنضع خطاب الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله - في سياقه!

في يوم الأحد الماضي (1 أكتوبر 2023) استقبل الشيخ محمد المنتقى – حفظه الله تعالى الشيخ أحمد البدوي ابن الشيخ محمد الفاضل رئيس مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين بطوبى، وكان برفقة بعض مسؤولي الإدارة المكلفة بشؤون المدارس في طوبى، وفي هذه المناسبة ألقى الشيخ الخليفة كلمة للحث على تنفيذ الإصلاحات التربوية التي تقودها هذه الإدارة بإذن منه. ويبدو أن هناك مشكلة في التعاطي الإعلامي لخطاب سماحة الشيخ محمد المنتقى حفظه الله تعالى.

في الحقيقة، يتوهم بعض الناس أن مشكلة ما قد طرأت، ويأتي بيان الشيخ الخليفة بمثابة رد فعل أو استجابة لهذه المشكلة الطارئة، وربما أدى عدم إدراك سياق الحديث إلى سوء فهم مدلوله لدى هؤلاء.

ونود هنا أن نوضح أن هناك، في واقع الأمر، لجنةً شُكلت منذ خمس سنوات (في إطار المشروع التربوي الكبير الذي رفعه الشيخ محمد المنتقى في فبراير 2018) وكُلفت بإصلاح البرامج التعليمة المعمول بها في طوبى بهدف تنظيم العملية التربوية فيها، وحل مشكلة الفوضى السائدة في قطاعها التربوي.

وكان عمل هذه اللجنة جماعيا، شارك فيه أهمُّ المؤسسات التربوية في طوبى، وعدد كبير من المفتشين التربويين، وكذلك ممثلون للسلطات التربوية الجهوية، وتمَّت المصادقة على نتائج أعمالها مصادقةً تقنيةً ومؤسساتية بمشاركة وزارة التربية الوطنية.

وكانت البرامج المعتمدة في هذا العمل:

1-    برنامج المدارس العربية الإسلامية المشتركة بين المؤسسات الإسلامية الكبرى المعدَّة في إطار ما يسمى بـ"لجنة السهر"؛

2-    برنامج المدارس الفرنسية العربية الحكومية؛

3-    برنامج التعليم العربي والديني في المدارس الفرنسية الكلاسيكية.

وبعد انتهاء اللجنة من عملها أنشئت إدارةٌ خاصة داخل مجمع الشيخ أحمد الخديم بطوبى للسهر على هذه الإصلاحات، وعلى تطبيقها من قبل المدارس العاملة في طوبى، بالتعاون مع المفتشية الجهوية من جهة، ولمساعدة أصحاب هذه المدارس وتأطيرهم من جهة أخرى.

وفي هذا الإطار، قد جاءت زيارة الشيخ أحمد البدوي لسماحة الخليفة برفقة مسؤولي الإدارة، من أجل تقديم هذه البرامج إلى حضرته، لأنه هو الذي كان قد أصدر أوامره للقيام بهذا العمل، وهو عمل إصلاحي لا يستهدف فئة ولا تيارا ولا مدارس بعينها، ولكن الهاجس الذي يكمن فيه هو إصلاح القطاع التربوي في طوبى وتنميته ورعايته، لتكون في مصاف المدن الإسلامية الكبيرة مثل المدينة والبصر والكوفة وغيرها (كما عبَّر عن ذلك الشيخ محمد المنتقى وقت إعلانه للمشروع في فبراير ٢٠١٨)، وأيضا لتتحقق رغبة الشيخ أحمد الخديم مؤسس المدينة الذي يبتهل في قصيدته مطلب الفوزين قائلا:

         واجْعلْ بنائيَ بناء عِلمِ               وعمل بسنـــة وحلـــم

         واجعله دأبا مسكنا التعلم       وموضع الفكرة والتفهم

              وموضع الإرشاد والتعليم          وموضع التصويب والتفهيم

فطوبى تظل متقيدة بمنهج الشيخ الخديم رضي الله  تعالى عنه الداعي إلى توطيد الأخوَّة الإسلامية ووحدة المسلمين، كما يتجلى في قوله رضي الله تعالى عنه:

والمؤمنون إخوةٌ والمؤمنات             لي أخواتٌ وحياتي حسنات

وفي قوله:

ولا تعادوا من رأيتم فاه              يخرج لا إله إلا الله

وستبقى طوبى إن شاء الله تعالى - تحت قيادة سماحة الخليفة الشيخ محمد المنتقى الحكيمة - حريصة على تماسك المجتمع وانسجامه وتقدمه وازدهاره، وستظل تعمل جاهدة لضمان الاستقرار والتفاهم والاحترام المتبادل، مع الحفاظ على منهج الشيخ أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

د. سام بوسو عبد الرحمن


الاثنين، 18 سبتمبر 2023

"طوبى : مصير مدينة-عالَم" ... كتابٌ قرأته

أصدر الوزير السابق السيد بمب جيي ابن الشيخ عبد الله جيي كتابا بعنوان "طوبى : مصير مدينة-عالَم"  Touba : destin d’une ville monde  تناول فيها قضايا مصيرية تتعلق بمدينة طوبى ووضعيتها وطبيعة السلطة الإدارية المناسبة فيها وآليات تنميتها، وهي كتاب قيم يطرح أفكارا تستحق المناقشة والدراسة. وفيما يلي عرض موجز عن محتوى الكتاب وعن الأفكار الأساسية التي تناولها المؤلف فيها.

 أولا- محتوى الكتاب

يتناول الكتاب الموضوعات الآتية:

-      اللامركزية

تناول الكاتب في بداية كتابه موضوع اللامركزية décentralisation  فتحدث عن أسسها وتاريخها في السنغال، وأهدافها، كما تعرض لصعوباتها التطبيقية.

-      الطريقة المريدية والشيخ المؤسس والتصور الإسلامي للمكان

 ثم تناول المريدية باعتبارها طريقة الاتباع للسنة النبوية الشريفة ومشروعا مجتمعيا يقترح نموذجا في استخدام المساحة يهدف إلى خلق التنمية المتناسقة للمريد.

-      طوبى بصفتها مدينة مثالية

 وفيما يخص التصور الإسلامي للمساحة عند الشيخ الخديم، تناول الكاتب مدينةَ طوبى بصفتها مدينة مثالية أو نموذجا للجنة فوق الأرض، ونظرةَ الشيخ حول وظيفة هذه المدينة الروحية، ويقول بخصوص طوبى:" إن مدينة مثل طوبى أسست لعبادة الله تعالى وليست لها مهمة سواها، وهذه الهوية الأولى يجب أن تكون مبدأ أساسيا في جميع الجوانب لإدارة المدينة، وعليها أن تحتفظ بهويتها وإلا ستصبح مدينة عادية أخرى مع جميع المشكلات الملازمة التي تكدر صفو الحياة فيها (قلة الأدب ، الفساد، المخدرات ...)

في المساعي الرامية إلى مساعدة طوبى لتحتل مكانتها في التوزيع الإداري السنغالي، لا ينبغي إغفال أن المريدية مدرسة روحية، وطوبى أكبر مراكزها؛ فهي مدرسة مهمتها إنتاج مواطن مثالي، مصدر للسلام والاستقرار، وقلعة أمام قلة الأدب والسرقة والعنف والمخدرات .

-      طوبى في سياسة اللامركزية في السنغال

وفي هذا الموضوع تناول المؤلف الوضعية الحالية غير الملائمة لطوبى وكيفية إدارة المناطق في الوسط المريدي، كما شرح المبررات التي تظهر أهمية مشروع الوضعية الخاصة (statut spécial) لطوبى كما بين ضرورة إضفاء طابع إقليمي على أسلوب الإدارة.

 وهنا يتناول ملامح الوضعية الخاصة لطوبى ويقترح هيكلا تنظيما ومجلسا للشورى

-      آليات تحسين التنمية الإقليمية لمدينة طوبى المحروسة

هنا يعالج المؤلف العوامل التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق التنمية في المدينة؛ وفي هذا الإطار يعرض عددا من الحقائق التي يجب أخذها في الاعتبار:

§      أن الأتباع المريدين أنفسهم يُمثلون رأس المال الأول لمدينة طوبى، لما يتمتعون به من روح التضحية والتفاني والخدمة، ولوجود نخبة مثقفة وذات كفاءات متعددة ومستعدة لخدمة الوضعية الخاصة للمدينة، ولرسوخ روح البذل وتقديم الهدايا التي تعتبر محركا للطريقة المريدية ومؤثرا في خدمة التنمية.

§      أن جاذبية مدينة طوبى (بنظافتها وجمالها وأمنها ...) يمكن أن تسهم في  نشر تعاليم الشيخ الخديم  في العالم.

§      أن للتكنولوجيات الجديدة دورا فعالا في تسيير وإدارة المدن، ويمكن أن تُمكن طوبى  من إدارة أماكنها العامة .

§      طوبى تُعد مدينة إشعاع علمي وملتقى ثقافي انطلاقا من تعاليم الشيخ في مجال العلم، ويـأتي مشروع مجمع الشيخ الخديم ليكون مركزا مرجعيا ورائدا في التكوين الجامع بين الأصالة والمعاصرة.

§      أن الشيخ الخديم أراد أن تكون طوبى مدينة سلام وأمن، وهنا تكمن ضرورة توفير   شرطة محترفة وأدوات مراقبة.

§      من الضروري أن تكون طوبى مدينة أنوار  بجود خطة للإضاءة في المناسبات الدينية، ولإنارة الشوارع الكبرى.

§      من الضروري أن تكون طوبى مدينة خضراء بوجود حدائق ومساحات خضراء ومياه جارية

§      ضرورة حل إشكالية الماء في طوبى، وهناك استراتيجيات قادرة على تحقيق ذلك .

§      لطوبى إمكانيات في أن تكون مدينة الندوات الكبرى، لما تجمعه من عدد كبير من الزوار سنويا ولموقعها الاستراتيجي القريب من المدار الدولي ووجود الطريق السريع.

§      ضرورة توفير مرافق صحية عالية الجودة متخصصة في الأمراض المزمنة لتكون طوبى قبلة  تقصد لشفاء أمراض الأبدان كما تقصد لشفاء أمراض القلوب.

-      طوبى مدينة صامدة

تناول المؤلف هنا ضرورة كون طوبى – كما أراده المؤسس-  مدينة صامدة وبيئة صافية يتوافر فيها السلام والأمان، وذلك بوجود إدارة للمخاطر، وخطة للطوارئ وللحماية المدنية ، وإدارة للنفايات، وإدارة للصرف الصحي.

-      التمويل المحلي وجباية الأموال من قبل السلطات المحلية

وفيما يخص التمويل يرى المؤلف ضرورة وجود مصلحة خاصة بالجباية وبجمع المعلومات والاحصائيات المتعلقة بالوضع المالي، ويقترح ما يلي:

§      إعادة تحديد الوعاء المالي

§      إيجاد مرصد للوعاء المالي

§      الاعتماد على الذات في تمويل تنمية المدينة لوجود الإمكانيات

§      إيجاد صندوق استثمار في خدمة المريدية    

ثانياً - خلاصة الأفكار الرئيسية الواردة في الكتاب:

قدم المؤلف نبذة تاريخية عن اللامركزية (التقسيم الإداري للمناطق) ابتداء من عهد الصحابة إلى عهد الاستعمار مرورا بالإمبراطوريات.

وجه انتقادات إلى السياسة العامة في مجال تخطيط، وأكد ضرورة مراعاة الجوانب الروحية والثقافية في تخطيط الأراضي (ص١٦)

قدم المريدية "باعتبارها مشروعا مجتمعيا هدفُه بناءُ شخصية مستقلة وخلقُ بيئة واقتراح نموذج تربوي يرافق الإنسان من المهد إلى اللحد " وطوبى هي المكان المناسب لتحقيق هذا الهدف (ص ٢٤)

وسبب بناء طوبى هو تمكين المريد من القيام بواجباته تجاه نفسه وتجاه خالقه وتجاه المجتمع، وهي واجهة الطريقة المريدية ولذلك يجب دراسة جميع التفاصيل المتعلقة بها بالخبرة اللازمة.

يجب مراعاة "الاحتياجات الروحية للسكان خلال التخطيط العمراني وإدارة المخاطر، وجودة الحياة ...."

يجب الجمع بين الإجراءات والعملية الحكومية والقواعد الإدارية من جهة وبين آداب وطاقة العمل المريدي والحماسة والالتزام من جهة ثانية من أجل ضمان إشعاع لمدينة طوبى

فيما يخص وضع طوبى في سياسة اللامركزية لا حظ المؤلف المشكلات الآتية

  • التزايد السريع في عدد السكان بدون مسايرته بالمرافق والتجهيزات اللازمة
  • التأخر في الاستثمارات حول المرافق العامة
  • عدم كفاية المياه
  • صعوبة إدارة المدينة
  • الهوة بين ضخامة الأولويات وبين الوسائل البشرية والمالية

إن وضعية طوبى الحالية غير ملائمة:

  • توجد مفارقة في قلة ميزانية البلدية مع استعداد المريدين للمساهمة في تنمية المدينة، ومن هنا ضرورة تكييف إدارة المدينة مع واقعها الاجتماعي والديني
  • هناك غموض في تقاسم الأدوار بين الخلافة والدولة (ص ٣٤)

-      اقتراح وضعية خاصة لطوبى Statut spécial

يرى المؤلف بعد هذا التشخيص ضرورة التغيير في كيفية إدارة منطقة مريدية مثل طوبى وذلك "بوضع الخليفة في قلب المنظومة الإدارية مع إعطاء الدولة حضورا يمكنها من الحفاظ على صلاحياتها"

فالأسلوب التقليدي لإدارة المناطق غير ملائم لطوبى فالسلطة الدينية لا غنى عنها فيها، ويجب ابتكار أسلوب إدارة مختلط يجمع بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية في ديناميكية واحدة للتنمية

ويمكن لمفوضية خاصة Délégation Spéciale  أن تصحح المسار : فلا توجد سوى سلطة واحدة : الخليفة الذي يساعده المفوض الخاص على رأس خدمات (مصالح ) البلدية. وقد اقترح هيكلا تنظيميا للمفوضية الخاصة ومجلسا للشورى.

يقترح المؤلف هنا إيجاد وضعية خاصة لطوبى، ويبرر هذا الاقتراح بالآتي:

§      ضرورة تكييف أسلوب الإدارة مع إدارة المنطقة المعنية.

§      جعل حكم الأراضي مترسخا في حقائق المجتمع وذلك باستلهام قيمنا وهويتنا بالاعتماد على الديناميكية والشرعيات المحلية (ص ٥٢)

§      ضرورة التخلي عن النموذج الغربي وتبني نموذج محلي صارم ومرتبط بواقعنا المعاش (مثل نموذج الشيخ الخديم)

§      ضرورة مواصلة التفكير الذي بدأ في ٢٠١٥ حول وضعية طوبى الخاصة

اختتم المؤلف  كتابه بالأمور التي يمكن أن تسهم في تحقيق التنمية لطوبى والاستراتيجيات الملائمة لتوفير هذه الأمور.

الخاتمة

هذا الكتاب يتمحور حول كيفية إدارة مدينة طوبى إدارةً ملائمة لخصوصيتها الدينية ومحققة لتنميتها الشاملة وذلك بالتخلي عن الأسلوب التقليدي وابتكار أسلوب جديد يجمع بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية في إدارتها. ويقترح لهذا الغرض أمرين:

§      إيجاد مفوضية خاصة لتسيير البلدية تكون تحت سلطة الشيخ الخليفة

§      إعطاء وضعية خاصة لمدينة طوبى

وبالجملة يطرح هذا الكتاب قضايا مهمةً حول تسيير المناطق، ويقدم أفكارا واقتراحات قيمة حول مدينة طوبى قد تفيد المدينة وتفيد الدولة معا. والمؤلف بصفته خبيراً في هذا المجال (اللامركزية وإدارة الأراضي) ومريداً مهتمّاً حريصاً على مصلحةِ مدينة طوبى وسُكَّانها يدعو إلى مواصلة التفكير حول إيجاد وضعيةٍ مناسبة لِطوبى. وهذه الخطوةُ من المؤلف نموذجٌ يحتذى به بالنسبة للخبراء المريدين والمتخصصين في مجالات أخرى.

                                                                د. سام بوسو عبد الرحمن

 

الخميس، 31 أغسطس 2023

الشيخ محمد المنتقى ورؤيته التربوية

كان التربية والتعليم في مقدمة أوليات الشيخ محمد المنتقى  - حفظه الله تعالى - عندما وصل إلى سدة الخلافة المريدية في سنة ٢٠١٨م، ولا يكون اهتمامه هذا غريبا بالنسبة من اطلع على جانب من سيرته، ومواقفه تجاه العلم والعلماء. فلم يكن مشروعه التربوي "مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين" سوى ترجمة لرؤيته التي تعكس بدورها رؤيةَ شيخه وجده الشيخ أحمد بمب مؤسس مدينة طوبى رضي الله تعالى عنه. وتحاول هذه المقالة الوجيزة تسليطَ الضوء على طرف من مسيرة الشيخ محمد المنتقى العلمية، ومواقفه تجاه العلم والعلماء، ورؤيته المتجسدة في مشروعه التربوي.

التربية والتعليم في الإسلام وفي المريدية

تحتل التربية والتعليم مكانة بارزة في سائر الأديان السماوية عموما، وفي الإسلام خصوصا، فقد بين القرآن الكريم أن التزكية والتعليم يأتيان في مقدمة مهام الأنبياء والمرسلين يقول تعالى :"هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"[الجمعة، ٢]

وفي الآيات الأولى المنزلة من الذكر الحكيم إشارة جلية إلى وسائل التربية والتعليم من قراءة وكتابة ودعوة إلى استخدامها؛ يقول تعالى "اقرأ باسم ربّكَ الذي خلق *خلقَ الإنسان من علق* اقرأ وربّك الأكرم *الذي علَّمَ بالقلم*علَّمَ الإنسان مالم يعلم".[العلق ١-٤] 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم المربي والمعلم الأول، ربّى أصحابه بسلوكه وأقواله على القيم الإسلامية السامية، وهداهم على الصراط المستقيم، فنشروا الإسلام، وسيطروا على مناطق شاسعة، وبنوا حضارة عظيمة في فترة قياسية. 

وسار على خطى صحابته الكرام العلماء الصالحون ورثة الأنبياء، ومنهم شيخنا أحمد الخديم رضي الله تعالى عنه، وقد عُرف بجهاده الشريف الذي جاهده لرفع راية الإسلام وإقامة مجتمع إسلامي حقيقي مستخدما فيه وسيلتي التربية والتعليم. وكانت مهمته الأساسية تجديد الدين وإحياء السنة النبوية الشريفة بالتعليم والتأليف والتربية على العمل وعلى الأخلاق السامية. وبفضل دعوة الشيخ الإصلاحية التي لقيت استجابة سريعة نشأت الطريقة المريدية منهجا للتربية والتزكية والخدمة.

وفي إطار هذه المهمة الجليلة، خلّف الشيخ رضي الله تعالى عنه تراثا علميا ضخما من مؤلفات ومراكز علميةٍ كان مريدوه يشرفون عليها، كما أطلع كبار مريديه على نيته إقامةَ صرح علمي كبير في طوبى، أعدَّ له العدة، من جمع الكتب والمراجع وإعداد المعلمين والمربين، قبيل انتقاله إلى جوار ربه، سنة ١٣٤٦هـ (١٩٢٧م).

وقد حرص خلفاء الشيخ رضوان الله تعالى عليهم وأبناؤه وكبار مريديه على النهوض بمهمة التربية والتعليم، فاهتموا ببناء المدارس لتحفيظ القرآن، وإنشاء مراكز لتربية المريدين. فانتشرت في طوبى وغيرها من قرى الطريقة المدارسُ والمجالسُ التعليميةُ، وظهرت فيها منذ الستينيات من القرن العشرين الميلادي معاهدُ إسلامية نظامية، أبرزها معاهد الشيخ أحمد امباكي غيدي فاطم ومعاهد الشيخ محمد المرتضى المعروفة باسم المعاهد الأزهرية. وفي هذه البيئة العلمية نشأ وترعرع الشيخ محمد المنتقى عالما مربيا ومحبا للعلم والعلماء.

الشيخ محمد المنتقى عالما ومربيا 

عرف الشيخ محمد المنتقى، قبل أن يصل إلى سدة الخلافة، عالما مربيا محبا للعلم وداعيا إلى العناية بالتربية والتعليم.  فقد كرّس جزءاً كبيراً من حياته لتحصيل العلم بالتعلُّم والاطلاع، وعانا في ذلك معاناة كبيرة، وفتح الله تعالى عليه، فحصل منه على حظ وافر.   يتحدث الشيخ بنفسه عن مسيرته الدراسية فقال: وبدأتُ دراسة القرآن في السنة الخامسة من عمري، ثم نقلني منها شيخي ووالدي الشيخ محمد البشير إلى "طوبى امبل"، قرية من مؤسساته، ثم نقلني منها إلى "جربيل" العاصمة الأقليمية، وأكملت دراساتي القرآنية على يد الشيخ مور امبي سيسي معلم القرآن الصالح الشهير.

ثم عدت إلى قرية "طوبى امبُل" بإذن من الشيخ الوالد فبدأت دراسة العلوم الشرعية واللغة العربية على العلامة الإمام العادل الشهير الشيخ حبيب الله، وذلك في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات.

وفي عام 1953م دفعتني نزعة علمية إلى الطلب من الشيخ الوالد إذنه بالخروج من البلد إلى مورتانيا فأذن لي، فتعلمت في مورتانيا اللغة العربية، وحينما أتقنت علمي النحو والصرف عدت إلى السنغال، وتابعتُ دراساتي - بإذن من الشيخ الوالد - على العالم العلامة الصالح الشيخ محمد دم في "جربيل" رحمه الله تعالى.

وبعد هذه الرحلة العلمية الثرية لم يشف غليل الشيخ من المعرفة، فعقد العزم على الرحيل مرة أخرى ولكن والده صرفه عن ذلك، وأرشده من جديد إلى العالم العلامة الشيخ حبيب الله امباكي، رحمه الله تعالى، وفي ذلك يقول :  "وفي أواخر الخمسينيات شغفتني مرة أخرى تلك النزعة العلمية بصورة عجيبة، ولكن الشيخ الوالد نصح لي بالإقامة فقال لي: "إن الشيخ حبيب هذا عالم وهب له الله فهما متميزا عليك بالإقامة ومراجعة جميع ما درسته وتصحيحه وتكميله عنده"، ففعلت ذلك حتى درست عليه مختصر الشيخ خليل وعلم العروض. 

اشتغل الشيخ محمد المنتقى بالتربية والتعليم بعد مرحلة التحصيل، فأنشأ عددا من المعاهد للتربية والتعليم، منها معهد الشيخ أحمد الخديم لتحفيظ القرآن الكريم وللدراسات  الإسلامية، في طوبى  (١٩٩٦) ومعهد توغار، ومعهد طيب النفس. وفي هذه المعاهد تقيم غالبية التلاميذ ويعيشون على نفقة الشيخ وتحت رعايته الشاملة. 

وأما محبة الشيخ محمد المنتقى للعلم والعلماء فهي معروفة للجميع، ويشهد لها سلوكُه مع العلماء من إكرام وبذل وإعانة، ومع العلم من قراءة ونشر. فالشيخ يُقرب العلماء ويُكرمهم، ويساعدهم ويتبنى أعمالهم. 

ومنذ عدة سنوات يخصص الشيخ محمد المنتقى نهارا كاملا يلتقي فيه بالمشتغلين بالعلم لتكريمهم وتشجيعهم، فيُعد لهم ما لذَّ وطاب من الأطعمة والأشربة، ثم يعقد معهم جلسة يستمع إليهم قبل إلقاء خطاب تشجيعي إليهم.

ولما وصل إلى الخلافة جعل التربية والتعليم في مقدمة أولوياته، وكان المشروع الأول الذي بادر بإقامته هو بناء صرح علمي كبير تنفيذا لرغبة جده مؤسس الطريقة المريدية.

وكان هدف الخليفة الجديدة توطيد مكانة العلم والتعليم في مدينة طوبى؛ وذلك لرفعها إلى صفوف المدن الإسلامية المعروفة في العلم؛ كالمدينة المنورة والكوفة والبصرة. فمن ثَم، طمح إلى إيجاد برنامج تربوي متكامل مَبني على أسس التربية الإسلامية، وجامع لجميع المجالات العلمية الضرورية في الحياة الدينية والدنيوية للإنسان. والمشروع يهدف كذلك إلى تحقيق أحد أهم مشاريع الشيخ الخديم الذي كان يريد أن يبني في طوبى مركزا علميا يستقبل الدراسين من جميع أنحاء العالم. 

مجمع الشيخ أحمد الخديم للتربية والتكوين 

وفي يوم 05 من فبراير 2018م أعلن الشيخ محمد المنتقى امباكي في خطاب  رسمي، إلى العالم عامة وإلى المريدين خاصة مشروعَه الرائد في بناء مجمع ذي بُعدٍ عالمي للتربية والتعليم في مدينة طوبى. وطلب من دائرة " روض الرياحين " برئاسة المنسق العام الشيخ أحمد البدوي امباكي أن تضعَ وتصمم له محتوًى ومخططاتٍ.

وفي هذا الخطاب وضع الشيخ الخطوط العريضة للمشرع من أهداف وغايات بعيدة، وبرزت فيه رؤيته البعيدة في التربية، ومن أبرز النقاط الواردة فيه:

· أنه أقام المشروع من باب الخدمة،

أنه طالما نذر إقامة مدرسة لصالح الأمة تكون امتدادا لتلك المدرسة التي ذكرها شيخنا الخديم،  

أنه لا يمكن إحياء تراث الشيخ إلا بالاعتماد على العلم،

وأن العلم يمثل أولوية بين جميع مجالات الخدمة،

وأن المشروع يشمل جميع مراحل الدراسة من البداية إلى القمة،

وأنه يكرس حياته وجميع إمكانياته لإنجاز هذا المشروع.

ويمكن أن نستنتج من ذلك الخطاب حرصَ الشيخ منتقى على خدمة شيخه الشيخ الخديم في مجال التربية والتعليم وفقا لطبيعة العصر، وبعدَ نظر ه وعلوَّ همته، حيث يرتفع سقفُ طموحاتِه إلى فترة ثلاثة قرون، ويرنو إلى المدن العلمية العريقة (المدينة المنورة، البصرة، الكوفة)، ونلمس فيه أخيراً تقديرَه للكفاءات الذاتية بإناطة المسؤولية على عاتق علماء الطريقة بقيادة روض الرياحين.

 ورؤية الشيخ محمد المنتقى التربوية هذه، تنبثق من رؤية الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه المتمركزة على عبادة الله، وطلب العلم النافع، والعمل الصالح، والتحلي بالأدب المرضي وهي التي بُنيَتْ علي أساسها قوائمُ مدينة طوبى الرامية أن تكون مسكن التعلم والإرشاد للمؤمنين في جميع أرجاء العالم.  وفي ذلك، يقول الشيخ الخديم في قصيدته " مطلب الفوزين " داعيا الله سبحانه وتعالى أن يحقق بغيته:

               واجعله دأبا مسكن التعلم ومـوضع الفكرة والتــفهم

وكان الشيخ المؤسس رضي الله تعالى، قد أعد العدة لإقامة صرح علمي يكون مقصد الطلاب من مخلف أرجاء المنطقة، فجاء هذا المشروع إسهاما في تحقيق رغبته. 


وفي الختام، نخلص إلى القول إن المشروع التربوي العملاق برؤيته البعيدة، ومكوناته المتعددة، وبرامجه المتنوعة يعكس في واقع الأمر علوَّ همة الشيخ الخليفة وبُعد رؤيته في ميدان التربية، ويتوج مسيرته المباركة في سبيل خدمة العلم والدين، ويجسد، في التحليل الأخير، مكانةَ التربية والتعليم في منهج الشيخ الخديم رضي الله تعالى عنه.

                                                         د. سام بوسو عبد الرحمن 

 

الآفاق المستقبلية لإدماج المدارس القرآنية في النظام التربوي الرسمي

بمناسبة الدورة الثالثة للاحتفال باليوم الوطني للدارات في السنغال، نظمت وزارة التربية الوطنية جلسات علمية قيمة في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024...